تسعة من كلّ عشرة أشخاص ممّن صُنّفوا بأنّهم يعانون من حساسيّة للبنسلين يمكنهم في الواقع استخدامه بأمان. فما سبب شيوع هذه التّصنيفات الخاطئة، وما العمل حيال ذلك؟
تُعدّ المضادّات الحيويّة من عائلة البنسلين من أكثر الأدوية فعاليّة وأمانًا، إذ تُستخدم على نطاق واسع في علاج العديد من الأمراض كالالتهاب الرّئويّ والتهاب السّحايا والتهابات الجلد وأمراض الفم والأسنان. ومن بين جميع الأدوية المتوفّرة، تتصدّر الحساسيّة للمضادّات الحيويّة من هذه الفئة قائمة الحساسيّات الدّوائيّة الأكثر شيوعًا، إذ يُبلّغ واحد من كلّ عشرة أشخاص بأنّه يعاني من حساسيّة للبنسلين. غير أنّ هذه الحساسيّة في الواقع نادرة جدًّا مقارنة بما هو شائع: فتسعة من كلّ عشرة أشخاص ممّن صُنّفوا بأنّهم يعانون من حساسيّة للبنسلين لا يعانون منها في الحقيقة، وإنّما تمّ تصنيفهم إمّا بسبب إصابتهم بعدوى فيروسيّة، أو نتيجة ظهور أعراض جانبيّة خفيفة، أو عدم تحمّل الدّواء بعد تناولهم مضادًّا حيويًّا من عائلة البنسلين. في الواقع، لا يتجاوز عدد من يعانون فعليًّا من حساسيّة للبنسلين واحدًا من كلّ مئة شخص، بينما يُصاب واحد فقط من كلّ عشرة آلاف بردّ فعل تحسّسيّ شديد ومهدّد للحياة يُعرف طبّيًّا باسم فرط الحساسيّة (Anaphylactic reaction). ونظرًا لانتشار التّشخيص الخاطئ لحساسيّة البنسلين في بلادنا وفي العالم أجمع، فمن الضّروريّ فهم كيفيّة حدوث ذلك، وما هي المخاطر الحقيقيّة للتّعرّض للبنسلين لدى المصابين به فعلًا، وما هي تبعات التّشخيص غير الدّقيق.
تسعة من كلّ عشرة أشخاص ممّن صُنّفوا بأنّهم يعانون من حساسيّة للبنسلين لا يعانون منها في الحقيقة. كبسولات مضادّ حيويّ | Shutterstock, TRADOL
الحساسيّة هي استجابة مفرطة من الجهاز المناعيّ تجاه مادّة لا تشكّل في الأصل خطرًا على الجسم، مثل حبوب اللّقاح أو بروتين الحليب أو مخلّفات عثّ الغبار المنزليّ. وتُسمّى المادّة الّتي تثير هذه الاستجابة المفرطة في جهاز المناعة بمسبّب الحساسيّة (Allergen)، و قد يكون البنسلين، كما ذكرنا سابقًا، أحد هذه المسبّبات لدى حوالي 1% من عامّة النّاس. وعند التّعرّض الأوّل لمسبّب الحساسيّة، قد يستجيب الجهاز المناعيّ استجابة أوّليّة خفيفة قد تمرّ دون ملاحظة. وبعد هذا التّعرّض الأوّل، تتشكّل ذاكرة مناعيّة حيث يتعلّم الجهاز المناعيّ كيفيّة التّعامل بفعاليّة أكبر مع هذا المسبّب مستقبلًا. وعليه، فإنّ أيّ تعرّض لاحق قد يؤدّي إلى استجابة تحسّسيّة أكثر شدّة، حتّى لو لم يلحظ المريض أيّ أعراض من التّعرّض الأوّل.
قد يواجه المصابون بحساسيّة البنسلين مجموعة متنوّعة من ردود الفعل عند تعرّضهم لأيّ دواء يحتوي عليه، تتراوح بين أعراض خفيفة كالطّفح الجلديّ والحكّة، وصولًا إلى صدمة الحساسيّة (Anaphylactic shock)، وهي استجابة مناعيّة حادّة تؤدّي إلى هبوط في ضغط الدّم وصعوبة في التّنفّس، ممّا يستدعي تدخّلًا طبّيًّا فوريًّا عن طريق حقن الإبينفرين (الأدرينالين).
وتنقسم ردود الفعل التّحسّسية للبنسلين إلى ثلاث فئات رئيسيّة: تشمل الفئة الأولى الاستجابة الفوريّة، الّتي تظهر خلال ساعة إلى ساعتين من تناول الدّواء، وقد تظهر على شكل طفح جلديّ، ضيق التّنفّس، إسهال، قيء، دوار، أو فقدان للوعي، وقد تشكّل في بعض الحالات خطرًا على الحياة، وفقًا للحالة الفرديّة. أمّا الفئة الثّانية فتضمّ ردود الفعل المتأخّرة الشّديدة، الّتي تظهر بعد ساعات، أيّام، أو حتّى أسابيع من تناول الدّواء، وتشمل ارتفاعًا في درجة الحرارة، وتغيّرات في تعداد خلايا الدّم، واضطرابات في وظائف الكبد أو الكلى، وقد تؤدّي إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى حدّ الوفاة. أمّا الفئة الثّالثة فتشمل ردود الفعل المتأخّرة الخفيفة، الّتي قد تظهر أيضًا بعد أيّام إلى أسابيع من التّعرّض، وتُعدّ هذه الفئة الأكثر شيوعًا، إذ تظهر عادةً على شكل طفح جلديّ ولا تستدعي تدخّلًا طبّيًّا.
يمكن أن يواجه المصابون بحساسيّة البنسلين مجموعة متنوّعة من ردود الفعل عند تعرّضهم لدواء يحتوي عليه، بدءًا من أعراض خفيفة كالطفح الجلديّ والحكّة، وصولًا إلى صدمة الحساسيّة. شخص يعاني من طفح جلديّ نتيجة حساسيّة | Shutterstock, wisely
كيف يتمّ تشخيص حساسيّة للبنسلين؟
يمرّ تشخيص حساسيّة البنسلين بعدّة مراحل تساعد طبيب الحساسيّة المختصّ في تحديد ما إذا كان المريض يعاني فعلًا من حساسيّة للدّواء. تبدأ العمليّة بتوثيق دقيق للتّاريخ المرضيّ للمريض، حيث يتمّ الاستفسار عن ردود الفعل السّابقة تجاه الأدوية عمومًا والبنسلين خصوصًا، والمدّة الّتي استغرقتها الأعراض للظّهور بعد تناول الدّواء، وطبيعة هذه الأعراض وشدّتها. وقد يكون هذا كافيًا في بعض الحالات لاستبعاد وجود حساسيّة حقيقيّة، ولكن في حالات أخرى قد يحتاج الطّبيب إلى إجراء اختبارات تشخيصيّة إضافيّة.
من أهمّ هذه الاختبارات "اختبار الوخز" (Skin prick test)، وهو فحص يتمّ فيه وخز الجلد بشكل سطحيّ ووضع كمّيّة ضئيلة من البنسلين على موضع الوخز. وهناك اختبار آخر يُعرف بـ "اختبار الحقن داخل الجلد" (Intradermal test)، حيث يتمّ حقن كمّيّة صغيرة من البنسلين تحت الجلد بتركيزات متفاوتة. إذا كانت نتيجة الاختبارات "إيجابيّة" وأدّت إلى استجابة تحسّسيّة - أي ظهور احمرار، تورّم، حكّة، أو طفح جلديّ في موضع الحقن - يتمّ تصنيف المريض على أنّه مصاب بحساسيّة للبنسلين. مع ذلك، قد يكون من المفيد في بعض الحالات إعادة تقييم الحالة بعد ثلاث سنوات على الأقلّ، حيث تشير الدّراسات إلى أنّ الحساسيّة تختفي لدى 80% من المصابين بعد نحو عشر سنوات. ونظرًا لأنّ اختبارات الجلد تهدف إلى تقييم الحساسيّة الفوريّة للبنسلين، وبسبب قصر فترة المتابعة، فإنّه لا يمكن الاعتماد عليها وحدها لاستبعاد ردود الفعل المتأخّرة.
عندما تكون نتائج اختبارات الجلد "سلبيّة" ولا تظهر أيّة استجابة تحسّسيّة، فهذا يشير إلى أنّ المريض على الأرجح لا يعاني من حساسيّة للبنسلين. ولكن لاستكمال التّشخيص بشكل قاطع، قد يلجأ الطّبيب إلى إجراء "اختبار التّحدّي" (Challenge test)، وفيه يتمّ إعطاء المريض جرعة واحدة أو أكثر من الدّواء المشكوك في تسبّبه للحساسيّة عن طريق الفم، مع مراقبته عدّة ساعات. فإذا ظهرت أعراض سريعة مثل الطّفح الجلديّ، تورّم الجلد، أو الحكّة، فهذا يؤكّد على وجود حساسيّة حقيقيّة. يتميّز "اختبار التّحدّي" بقدرته على كشف الاستجابات التّحسّسيّة الّتي قد لا تظهر في الاختبارات السّابقة، إذ إنّ تناول الدّواء عن طريق الفم يعرّض الجسم لكمّيّة أكبر من المادّة المشكوك فيها مقارنة بالتّعرّض الجلديّ. كما أنّ المادّة في هذه الحالة تمرّ عبر الجهاز الهضميّ، ومنه إلى الدّم والأنسجة في مختلف أنحاء الجسم، على عكس الاختبارات الأخرى.
في حال مرور "اختبار التّحدّي" دون ظهور أيّة استجابة تحسّسيّة، يُصنّف المريض على أنّه غير مصاب بحساسيّة للأدوية من عائلة البنسلين، باستثناء الحالات النّادرة الّتي قد تظهر فيها ردود فعل متأخّرة، والّتي يجب على المريض حينها إبلاغ العيادة عنها فورًا. ولا يمكن إلغاء تصنيف الحساسيّة للبنسلين بثقة إلّا بعد إتمام اختبارات الجلد و "اختبار التّحدّي" بنجاح.
وفي بعض الحالات، يلجأ الأطبّاء إلى إجراء فحوصات دم خاصّة يمكنها الكشف عن الأجسام المضادّة المرتبطة بالاستجابة التّحسّسيّة للبنسلين، ورغم أنّ هذه الفحوصات أقلّ شيوعًا، إلّا أنّها تصبح خيارًا مهمًّا عندما يتعذّر إجراء اختبارات الجلد لأيّ سبب من الأسباب.
من أهمّ أدوات تشخيص الحساسيّة "اختبار الوخز"، وفيه يتمّ وخز الجلد ووضع كمّيّة ضئيلة من المادّة المشتبه في تسبّبها للحساسيّة. اِختبار الحساسيّة | Shutterstock, Monika Wisniewska
ما هي مشكلة التّصنيف الخاطئ؟
للتّصنيف الخاطئ تداعيات خطيرة لا تقتصر على المرضى فحسب، بل تمتدّ لتشمل نظام الرّعاية الصّحّيّة بأكمله. فتصنيف المريض كمصاب بالحساسيّة يُلزم الأطبّاء باللّجوء إلى أدوية بديلة، ممّا قد يؤخّر تلقّي العلاج المناسب. وغالبًا ما تكون هذه البدائل أعلى تكلفة، وأقلّ فعاليّة في مواجهة البكتيريا المسبّبة للعدوى، وقد تسبّب آثارًا جانبيّة أشدّ، أو تكون البكتيريا أكثر قدرة على تطوير مقاومة لها. وتشير الإحصاءات إلى أنّ المرضى المصنّفين كمصابين بحساسيّة للبنسلين يدخلون المستشفى بمعدّل أعلى من غيرهم، كما تمتدّ إقامتهم في المستشفى لفترات أطول.
وفي هذا السّياق، روت طبيبة أطفال في أحد المستشفيات الأمريكيّة قصّة حالة طفل راجع العيادة مصابًا بالتهاب بكتيريّ في الحلق، وتمّ تصنيفه - خطأً كما اتّضح لاحقًا - على أنّه يعاني من حساسيّة للبنسلين. كان والد الطفل مصابًا بحساسيّة للبنسلين، واعتُقد أنّها صفة وراثيّة، وبالتّالي أبلغ الطّاقم الطّبّيّ أنّ ابنه يعاني من الحساسيّة نفسها. ونتيجة لذلك، وصفت الطّبيبة للطّفل مضادًّا حيويًّا يُدعى كليندامايسين (Clindamycin)، وهو ينتمي إلى فئة مختلفة من المضادّات الحيويّة وقد يكون أقلّ فعاليّة مع احتمال أكبر للآثار الجانبيّة. بدأ الطّفل العلاج، لكنّ حالته لم تتحسّن، ثمّ تبين أنّ البكتيريا المسبّبة للمرض مقاومة للكليندامايسين، ممّا أدّى إلى تفاقم العدوى وتطوّرها إلى قيح في الحلق، وانتهى الأمر بإدخال الطّفل إلى المستشفى.
والواقع أنّ معظم التّشخيصات الخاطئة تحدث في مرحلة الطّفولة المبكّرة، إذ إنّ حوالي 75% ممّن يُصنّفون كمصابين بحساسيّة للبنسلين هم أطفال دون سنّ الثّالثة. وفي كثير من الحالات، يحدث هذا التّصنيف الخاطئ بعد إصابة فيروسيّة وتناول مضادّ حيويّ دون حاجة طبّيّة حقيقيّة. فالعديد من الأطفال الّذين يتناولون البنسلين قد يصابون بطفح جلديّ، إلّا أنّ سببه في الواقع هو الفيروس المسبّب للمرض أصلًا، أو العدوى الفيروسيّة المصاحبة للعدوى البكتيريّة، وليس استجابة تحسّسيّة. كما أنّ بعض الآثار الجانبيّة للبنسلين، مثل الصّداع، الغثيان، والإسهال، كثيرًا ما تُنسب خطأً إلى الحساسيّة. وعندما نضيف إلى ذلك التّصنيف الخاطئ بسبب وجود تاريخ عائليّ للحساسيّة، وحقيقة أنّ الأطبّاء لا يحيلون دائمًا لإجراء اختبارات تشخيصيّة مؤكّدة، يتّضح لنا سبب ارتفاع معدّل التّشخيصات غير الدّقيقة بشكل ملحوظ.
وحتّى في الحالات الّتي يعاني فيها الطّفل فعلًا من حساسيّة حقيقيّة، فمن المرجّح جدًّا أن تختفي هذه الحساسيّة مع مرور الزّمن. وكما ذكرنا سابقًا، تشير الدّراسات إلى أنّ 80% من المصابين بحساسيّة للبنسلين تزول حساسيّتهم بعد نحو عشر سنوات، وهؤلاء الأشخاص الّذين كانوا يعانون من حساسيّة في الماضي ولم يعودوا مصابين بها حاليًّا يُسهمون أيضًا في ارتفاع معدّل التّصنيف الخاطئ.

المرضى المصنّفون كمصابين بحساسيّة للبنسلين يدخلون المستشفى بمعدّل أعلى من غيرهم، وتمتدّ إقامتهم في المستشفى، إحصائيًّا، لفترات أطول. طفل في المستشفى | Shutterstock, FamVeld
في الوقت الرّاهن، تقتصر عمليّة إعادة تقييم وإلغاء تصنيف الحساسيّة في بلادنا على عيادات الحساسيّة في المستشفيات بشكل شبه حصريّ، وتمتدّ فترة الانتظار للحصول على موعد إلى ما يزيد عن العام في بعض الأحيان، ناهيك عن أنّ بعض المستشفيات تفتقر تمامًا لوجود عيادة متخصّصة بالحساسيّة، ونتيجة لذلك، يستمرّ الكثيرون ممّن صُنّفوا خطأً كمصابين بالحساسيّة في حمل هذا التّصنيف غير الدّقيق، بل إنّ العديد منهم لا يدركون أصلًا أنّ تشخيص حساسيّتهم للبنسلين قد يكون محلّ شكّ.
وفي ورقة موقف نشرها الاتّحاد المحلّيّ لعلم المناعة السّريريّة والحساسيّة حول مشكلة التّصنيف الخاطئ لحساسيّة البنسلين، أوصى رؤساء الاتّحاد بتوسيع نطاق خدمات إعادة التّقييم لتشمل العيادات المجتمعيّة، وخاصّة في الحالات منخفضة المخاطر. غير أنّ هذا التّغيير يتطلّب استعدادًا من النّظام الصّحّيّ لإنشاء مراكز إضافيّة لإجراء اختبارات التّحدّي في المجتمع، مع توسيع خدمات الحساسيّة في المستشفيات، حتّى يمكن معالجة مشكلة التّصنيفات الخاطئة على نطاق أوسع.
ومع تزايد الوعي المجتمعيّ بقضيّة التّصنيف الخاطئ لحساسيّة البنسلين، من المأمول أن تتراجع حدّة هذه المشكلة. ولتحقيق هذه الغاية، من الضّروريّ توعية المرضى المصنّفين كمصابين بالحساسيّة بأنّ تصنيفهم قد يكون، باحتمال كبير، غير دقيق، مع العمل في الوقت نفسه على تزويد المختصّين بالأدوات اللّازمة للتّشخيص السّليم. وبطبيعة الحال، إنّ التّوسّع في إنشاء عيادات الحساسيّة وتحسين إمكانيّة الوصول للخدمات الطّبّيّة للجميع سوف يسهمان بشكل كبير في حلّ هذه المشكلة. وعليه، فإذا كنتَ تعتقد أنكَ مصاب بحساسيّة للبنسلين ولكنّ التّشخيص غير مؤكّد، فيُنصح بمراجعة طبيبكَ المعالج لإجراء تقييم شامل للحالة.
تنبيه هامّ: هذا المقال يقدّم معلومات علميّة عامّة فقط، ولا ينبغي اعتباره بديلًا عن الاستشارة الطّبّيّة المتخصّصة.