هل تطوّر لونا ريش الكاكابو الموجودَيْن اليومَ بسبب ميزة التَّمويه الّتي كانت تتمتّع بها هذه الطّيور للتّخفّي أمام الحيوانات المفترسة - والّتي قد انقرضت منذ زمن طويل؟

الكاكابو (Kākāpō) هو ببغاء كبير يعيش في نيوزيلندا، وهو أثقل ببغاء في العالم. يصل متوسّط ​​عمره إلى ٩٠ عامًا - وهو معرّض لخطر الانقراض بشكل حرج: لم يتبقَ منه سوى حوالي 250 فردًا، وذلك لأسباب مثل تدمير الموائل (موطنه الطّبيعيّ) وإدخال الحيوانات المفترسة إلى الجزر الّتي يعيش فيها، والّتي لم يكن بها أيّ ثدييات تقريبًا حتّى وصول البشر. يستخدم الكاكابو ألوان ريشه للتّمويه، ويُصدر الذّكر صوت "بوم" خافِت ومنخفض، لجذب الإناث بينما يكون مستلقيًا على الأرض. الكاكابو لا يستطيع الطّيران، ويبني أعشاشه على الأرض، ممّا يجعله أكثر عرضةً للافتراس بشكل خاصّ.

لا تمتلك جميع طيور الكاكابو ريشًا من نفس اللون: بعضها يمتلك ريشًا أخضر، وبعضها الآخر يمتلك ريشًا زيتيًّا. خلال القرون الأخيرة، انخفض عدد أفراد الكاكابو بشكل كبير. مع انخفاض عدد الأفراد فإنّ التّنوّعات الجينيّة تقلّ، ومع ذلك لا يزال هناك كاكابو ذو ريش أخضر وكاكابو ذو ريش زيتيّ، والتّوازن بينهما لا يزال قائمًا. ما هو الأساس الجينيّ لهذا الاختلاف؟

دراسة جديدة تُعزّز الفرضية القائلة بإنّ السّبب هو "شبحٌ" من الماضي: الحيوانات المفترسة المنقرضة أثّرت على الانتقاء الطّبيعيّ لألوان الكاكابو. تستند الدّراسة على تحليل موسّع للمادةّ الوراثيّة للكاكابو، وتقدّم رؤى حول الآليّات التّطوّريّة في بيئة سريعة التّغيّر، وقد تساهم هذه الدّراسة في الحفاظ على الكاكابو.


 لا تمتلك كلّ طُيور الكاكابو ريشًا من نفس اللّون: فبعضها له ريش أخضر - وبعضها الآخر له ريش زيتيّ اللون. كاكابو بألوان مختلفة | من المقال Urban et al., PLoS Biology 2024

تغييرٌ صغير ومعنىً كبير

حاول الباحثون، من خلال المعطيات الجينيّة، فَهْم كيفيّة تطوُّر نمطين شائعَين للألوان، في عدد صغير من هذا النوع النادر من الطيور، خاصةً في ظلّ الانخفاض الحادّ في أعداد ببغاوات الكاكابو. اكتشف الباحثون تفاصيل مفاجِئة حول كيفيّة تطوير طائر الكاكابو للونيّ الرّيش وكيفية حفاظه عليهما. أنشأ الباحثون كتالوجًا لألوان الرّيش، بمساعدة الصّور والتّوثيق من الأدبيّات العلميّة. لفهم ماذا كان لون ريش الكاكابو، استخدم الباحثون برنامج حاسوب، لأنّه لم يكن دائمًا واضحًا للعين المجرّدة ما هو اللّون. حلّل البرنامج ألوان الرّيش، وتقسيم أفراد الكاكابو إلى مجموعتَيْن منفصلتَيْن: الببغاوات الخضراء والببغاوات ذات اللّون الزّيتيّ.

استند التّحليل الجينيّ الّذي أجراه الباحثون على دراسة سابقة، حُدِّد فيها تسلسل الحمض النّوويّ لـ 169 ببغاء كاكابو. ركّزت الدّراسة الحاليّة على مواقع مرتبطة بلون الرّيش في الحمض النّوويّ. وجد الباحثون أنّ الاختلاف في ألوان الرّيش ناتج عن حدَثَيْن وراثيّين - تغييرات في نقطة واحدة في سلسلة الحمض النّوويّ، مثل "خطأ مطبعيّ" صغير في الشّفرة الوراثيّة.

النوكليوتيدات هي اللّبنات الأساسيةّ للحمض النّوويّ. تُمَيَّز بالحروف A وَT وC وGَ، تشكّل سلاسل طويلة من الحمض النّوويّ، وهي جزيئات تُسمّى الكروموسومات، وتوجد في نواة الخليّة. الجينات هي عبارة عن تسلسلات من الحمض النّوويّ على طول السّلسلة الطّويلة، وبناءً على المعلومات المخزَّنة فيها يتمّ بناء البروتينات.

الكائنات الّتي لديها نسختان من كلّ كروموسوم - لأنّها تتلقّى نسخة من الأمّ ونسخة أخرى من الأب - يكون لديها حالتان لكلّ موضع على سلسلة الحمض النّوويّ. في كلّ موضع على الحمض النّوويّ، يمكن أن يظهر واحد من النوكليوتيدات المحتملة - النوكليوتيد الخاصّ بالأب أو النوكليوتيد الخاص بالأمّ. في معظم الحالات، تكون نسخ الجينات متطابقة، ولكن في بعض الأحيان نحصل نحن - أو الكاكابو - على حالات مختلفة لأحد المواضع في الحمض النّوويّ، والّتي تسمّى الأليلات، من الأمّ والأب.

إنّ توازن القوى بين الجينات الّتي نتلقّاها من الوالديْن لا يكون دائمًا هو نفسه. في بعض الأحيان "تفوز" إحدى النّسختين من الجين وتؤثّر على السّمة المرئيّة (الأليل السائد)، حتى لو كانت هناك نسخة أخرى غير ظاهرة (الأليل المتنحّي). إن الدّمج وتوازن القوى بين الحالات المختلفة للجين (الأليلات) هو من يحدّد السّمة النّهائيّة.


 إنّ توازن القوى بين الجينات الّتي نتلقّاها من الوالدَيْن لا يكون دائمًا هو نفسه. في بعض الأحيان "تفوز" إحدى النّسختين من الجين وتؤثّر على السّمة المرئيّة (الأليل السّائد). في الرّسم التّوضيحيّ، الجين الخاص باللون الأزرق هو المسيطر، ولذلك يتمّ التعبير عن اللون البرتقالي فقط عندما تكون كلا النسختين برتقاليتين. | Shutterstock, Kooto

إحدى التّغيّرات الجينيّة الّتي تؤثّر على لون الرّيش لدى طائر الكاكابو، موجودة في موضعَيْن في نهاية الكروموسوم 8. النيوكليوتيدات المحتملة في هذا الموضع هي T أو G، حسب ما ورثه الكاكابو من والديه. T هو الأليل السّائد، اكتشف الباحثون أنّه لكي يكون الفرد ذا لون زيتيّ، يجب أن يحمل نسخة واحدة على الأقلّ من نوكليوتيد T في هذا الموضع. ولكن أكثر من ذلك، فإنّه يحتاج أيضًا أن يكون لديه نسخة واحدة على الأقلّ من G في موضع آخر على نفس الكروموسوم. وهذا يعني أنّ هناك منطقتان في الحمض النّوويّ مرتبطة بلون الريش، وكلاهما على الكروموسوم 8.

مطاردة للّون الزّيتيّ

أنشأ الباحثون نموذجًا وراثيًّا، ووجدوا أنّ آلية تأثير جين واحد على آخر هي الّتي تحدّد لون الريش. في هذه الظّاهرة، يمكن لجين واحد أن يؤثّر على ظهور جين آخر، بل وحتّى إخفاء ظهوره (ظاهرة وراثيّة تعرف باسم التّفاعل الجينيّ أو الحجب الجينيّ). في حالة الكاكابو، لا يتعلّق الأمر بجينَيْن مختلفَيْن، بل بموقعَيْن على طول جُزيء الحمض النّوويّ، أحدهما ليس ضمن جين معروف، ولكن ظاهرة التّفاعل الجينيّ تعمل بنفس الطّريقة.

شملت الدّراسة عائلة واحدة من الكاكابو، حيث أمكن فيها فحص نمط وراثة الجينات من الآباء إلى الأبناء، والعلاقات بين المظاهر المختلفة للجينات. كان لدى ببغاء الكاكابو، المُسمّى تي-أتيبو Te Atapō، نوكليوتيد A في إحدى النّسختين ونوكليوتيد T في النّسخة الأخرى، في موضع على الحمض النّوويّ، وفي الموضع الآخر كان هناك نوكليوتيد T في كلتا النّسختين - أو باختصار، AT\TT. نظرًا لأنّه لم يكن لديه نوكليوتيد G في الموضع الثّاني، فقد كان Te Atapō أخضر اللّون. في المقابل، كانت ببغاء الكاكابو المُسمّاة بورا (Pura)، والّتي لديها النّيوكليوتيدات AT\TG، ذات لون زيتيّ - كان لديها النيوكليوتيد T في الموضع الأول والنيوكليوتيد G في الموضع الثاني. معًا أنتجا نسلاً عديدًا من الطيور، كان يمكن فحص النمط الجيني ولون الرّيش لديه: تلقّى أوري (Uri) النيوكليوتيدات AT\TT - بدون G في الموضع الثاني - وكان لون ريشه أخضر. تلقّى برافو (Bravo) النّيوكليوتيدات TT\TG وكان لون ريشه زيتيًّا. تمّ اختبار ثلاثة طيور من نسل تي-أتيبو Te Atapō، أيضًا مع ببغاء آخر، وتمّ اكتشاف نفس الظّاهرة فيهم جميعًا. تعزّز هذه النّتيجة فرضيّة التّفاعل السّائد، حيث إنّ التّفاعل بين الموقعَيْن، إلى جانب علاقة الأليلات ببعضها البعض، يحدّد لون ريش الكاكابو.


 شملت الدّراسة عائلة واحدة من الكاكابو، حيث أمكن فيها فحص نمط وراثة الجينات من الآباء إلى الأبناء والعلاقات بين المظاهر المختلفة للجينات. رسم توضيحيّ لنموذج وراثة لون الرّيش | كسانيا جوربيل

بالإضافة إلى وصف الآليّة الجينيّة للحصول على لون الرّيش وتوزيع الألوان، أراد الباحثون التّحقّق ممّا إذا كانت هناك اختلافات أُخرى بين الرّيش. فحصوا نسيج وبنية سطح ستة ريش، ثلاثة من كلّ لون، تحت المجهر الإلكترونيّ الماسح (SEM). وجد الباحثون أنّ انعكاس الضّوء في الرّيش الأخضر كان مختلفًا عن انعكاس الضّوء في الرّيش الزّيتيّ، لكن العيّنة كانت صغيرة جدًّا بحيث لا يمكن الاعتماد على هذا الاكتشاف بشكلٍ قاطعٍ.

من كان الأوَّل؟

تُظهر الدّراسة أنّ اللّون الأخضر للرّيش أقدم من اللّون الزّيتيّ. ولفهم كيف تطور اللّونان في مجموعات الكاكابو، أنشأ الباحثون نماذج ومحاكاة للحالات المحتملة، مثل سيطرة اللّون الأخضر على المجموعات أو سيطرة اللّون الزّيتيّ، باستخدام النموذج الجيني لوراثة اللّون الّذي طوّروه سابقًا. أشارت النّماذج إلى أنّ لونَي ريش الكاكابو كانا موجوديْن منذ ما يقرب مليونَي عام.

يعتقد الباحثون أنّ هذا التنوّع تمّ الحفاظ عليه من خلال الاختيار المتوازن، نتيجةً للتّفاعلات بين الكاكابو والحيوانات المفترسة الكبيرة الّتي انقرضت بسبب أعمال الإنسان - مثل عقاب هاآست (Haast's eagle) وعُقيب إيلز (Eyles's harrier). هذان الطّيران ظهرا على الجزيرة تقريبًا في نفس الوقت الّذي ظهرت فيه الاختلافات الجينيّة للكاكابو في نيوزيلندا. أفراد الكاكابو الّذين يملكون ريشًا ذا ألوان مختلفة، كانوا يتمتّعون على ما يبدو بميزة البقاء على قيد الحياة في بيئات مختلفة أمام الحيوانات المفترسة المختلفة. على ضوء هذه النّتائج، يُحذّر الباحثون من أنّه وفي غضون 33 جيلًا تقريبًا، ومع غياب الحيوانات المفترسة، فسوف يختلّ التّوازن بين ظهور اللَّونيْن، ويقترحون إعطاء الأولويّة لجهود الحماية من الانقراض، والّتي تشمل معالجة ظهور كلا اللّونَيْن في مجموعات الكاكابو.

تُظهر النّتائج كيف أنّ الحيوانات المفترسة حتّى بعد انقراضها، تستمرّ في تشكيل الجينات الخاصّة بالفرائس. قد تُساعد هذه المعلومات في الحفاظ على التّنوّع الجينيّ لطائر الكاكابو، وإدارة برامج تكاثر أكثر فاعلية للأنواع المهدَّدة بالانقراض. إنّ الحفاظ على الاختلافات الجينيّة كتلك الموجودة لدى طائر الكاكابو، قد يساعد مجموعات صغيرة من الطّيور على البقاء على قيد الحياة، في ظلّ تغيرات بيئيّة غير متوقّعة في المستقبل.

 

0 تعليقات