كشفت دراسة أُجريت على الفئران بشكل مفاجئ أنّ التّعزيزات السّلبيّة، التّي تصعّب عمليّة الإقلاع عن تناول مسكّنات الألم، تعمل بآليّة دماغيّة منفصلة عن التّعزيز الإيجابيّ الّذي خلق الاعتماد على المخدّرات في المقام الأوّل.

عندما يعاني الشّخص من آلام شديدة بعد وقوع حادث، إصابة بالمرض أو الخضوع لعمليّة جراحيّة، يستطيع أطبّاؤه التّخفيف عنه باستخدام مسكّنات الألم. هذه هي الموادّ الّتي تستطيع تخفيف الألم والمعاناة المرتبطة به، وتسمح للإنسان بإتمام وظائفه. ومع ذلك، فإنّ استخدام مسكّنات الألم من عائلة موادّ أشباه الأفيونيات له عيب أساسيّ: فهي قد تؤدّي إلى الإدمان، ولذلك فإنّ قرار استخدامها قد تكون له عواقب وخيمة.

الإدمان ظاهرة مُركّبة تجمع بين قوّتين رئيسيّتين. من ناحية واحدة، يؤدّي استخدام المخدّر إلى إحداث شعور بالنّشوة، ممّا يشجّع المستخدم على الرّغبة في الاستمرار في تناوله. هذا هو التّعزيز الإيجابيّ - وهو الموقف الّذي تؤدّي فيه الاستجابات المرغوبة لحافز ما إلى جعل المتلقّي يرغب في تجربته مرارًا وتكرارًا. ومن ناحية أخرى، عندما يتوقّف الشّخص عن استخدام المخدّر، فإنّه يعاني من آثار جانبيّة غير سارّة تسبّب له معاناة كبيرة. وهذا هو التّعزيز السّلبيّ، والّذي تحت تأثيره سوف يرغب الشّخص في الاستمرار في السّلوك الّذي يمنع المشاعر غير المرغوب فيها. ولذلك، فإنّه سوف يتناول جرعة أخرى من المسكّن، وينقذ نفسه من الآثار السّلبيّة المرتبطة بغيابه.


لقد أدّى الإفراط في استهلاك الفنتانيل في السّنوات الأخيرة إلى ظاهرة الإدمان على نطاق واسع. اِمرأة مدمنة على مسكّنات الألم الأفيونيّة | Kmpzzz, Shutterstock

أشباه الأفيونيات للجماهير

يعدّ الفنتانيل أحد مسكّنات الألم الأكثر فعاليّة المتوفّرة اليوم. هو عقار من عائلة الموادّ الأفيونيّة المصنّعة، أي مجموعة من الموادّ المصنّعة الّتي تشبه في بنيتها الكيميائيّة ووظيفتها موادّ معيّنة مُستخرجة من نبات الأفيون (الخشخاش المنوّم) أو نتاجاته. ترتبط هذه الموادّ بمستقبلات موجودة في الخلايا العصبيّة في الدّماغ وتؤثّر على وظيفتها. يشبه الفنتانيل غيره من المخدّرات الأفيونيّة في طريقة عمله، مثل الهيروين. الوظيفة الرّئيسيّة لهذه المستقبلات هي التّعرّف إلى الموادّ الأفيونيّة الموجودة بشكل طبيعيّ في الدّماغ، ومساعدتها في التّعامل مع القلق، الخوف والألم.

الفنتانيل دواء قويّ جدًّا وفعّال جدًّا في تخفيف الآلام الشّديدة، ويسبّب أيضًا شعورًا بالنّشوة الشّديدة. إنّ الجمع بين التّأثير السّريع مع شدّة المشاعر الإيجابيّة الّتي يثيرها والآثار الجانبيّة الشّديدة الّتي نشعر بها عند التّوقّف عن استخدامه، يخلق خطرًا كبيرًا بشكل خاصّ للإدمان.

قد يصبح بعض مستخدمي الفنتانيل، وخاصّة إذا استمرّ استخدامه لفترة طويلة، مدمنين عليه يواجهون صعوبات الفطام إذا أرادوا الإقلاع عنه. غالبًا ما يكون الإدمان مصحوبًا باستخدام جرعات أكبر بشكل متزايد، تصل إلى حدّ الموت بسبب الجرعة الزّائدة. وأظهرت البيانات من عام 2003 إلى عام 2017 أنّ الإفراط في استهلاك الفنتانيل أصبح وباءً حقيقيًّا في السّنوات الأخيرة.


ترتبط الموادّ الأفيونية بالمستقبلات وتؤدّي إلى تخفيف الألم. مستقبل لأشباه الأفيونات في غشاء خليّة عصبيّة | Nanoclustering / Science Photo Library

آليّات منفصلة

على الرّغم من الاستخدام الهائل للفنتانيل، فإنّه لا يزال من غير الواضح بالضّبط ما يحدث في الدّماغ أثناء استخدامه، وما يحدث عندما يحاول الشّخص الإقلاع عنه. اِستخدم باحثون من سويسرا وفرنسا مؤخّرًا أدوات علميّة متقدّمة لمحاولة فهم طبيعة نشاط الدّماغ المميّز لإدمان الفنتانيل.

في الدّراسة الّتي نشرت في مجلّة "Nature"، حُقنت الفئران بالفنتانيل لمدّة خمسة أيام، ثمّ أعطوها مادّة تُسمّى النالوكسون، والّتي تلغي عمل أشباه الأفيونيات، وبالتّالي تُستخدم لعلاج الأشخاص الّذين تناولوا جرعات زائدة. نتيجة لذلك، عانت الفئران المدمنة على الفنتانيل من نقص مفاجئ في هذا المخدّر، وبدأت تعاني من صعوبات الفطام. ووجد الباحثون أنّه بعد إعطاء الفنتانيل، زاد النّشاط في المنطقة السّقيفيّة البطنيّة (VTA) في أدمغة الفئران. وكان هذا الاكتشاف متوقّعًا، لأنّ هذه المنطقة تشارك في استجابة الدّماغ للمكافأة ومشاعر النّشوة.

اِكتشف الباحثون أنّه في هذه الحالة، يعمل الفنتانيل على تثبيط عمل الخلايا العصبيّة الّتي تتمثّل وظيفتها الرّوتينيّة في تقليل النّشاط العصبيّ المرتبط بالشّعور بالمكافأة في الغلاف البطنيّ. ونتيجة لذلك، يتكثّف نشاط آليّة المكافأة. وعندما أوقفوا إمداد الفنتانيل، أظهرت الفئران علامات صعوبة الفطام، وتمّ تنشيط منطقة اللّوزة الدّماغيّة، المرتبطة بتعلّم الخوف والعواطف السّلبيّة، ويبدو أنّ تنشيطها يعكس المشاعر الصّعبة المرتبطة بالفطام.

اِستخدم الباحثون الهندسة الوراثيّة لحذف مستقبلات الفنتانيل في الخلايا العصبيّة في عدّة مناطق من أدمغة الفئران. وعندما قاموا بحذف المستقبلات الموجودة في الغلاف البطنيّ، تبيّن أنّ التّعزيز الإيجابيّ النّاتج في الفئران استجابة للفنتانيل كان أضعف. وعلى الرّغم من ذلك، فقد وُجد بشكل مفاجئ أنّ أعراض الإدمان وصعوبات الفطام ظلّت كما هي. لم يبدُ أنّ الفئران تستمتع بالمخدّرات بشكل خاصّ، ولكنّها ظلّت مدمنة عليها، وواجهت صعوبات في الإقلاع عنها.

وعلى النّقيض من ذلك، عندما حُذفت مستقبلات المخدّر في اللّوزة الدّماغيّة، لم تظهر الفئران صعوبات الفطام. ومن هذا يمكننا أن نستنتج أنّ آليّات التّعزيز الإيجابيّ والتّعزيز السّلبيّ منفصلة، ​​وتمثّل نظامين مختلفين في الدّماغ.


اِستخدم الباحثون الهندسة الوراثيّة  لحذف مستقبلات الفنتانيل في الخلايا العصبية في عدة مناطق من أدمغة الفئران. بنية جزيء الفنتانيل |  Mukul_1122, Shutterstock

تعزيزات منفصلة

لتأكيد نتائجهم، أجرى الباحثون تجارب إضافيّة. أوّلًا، قاموا بتزويد الفئران بدوّاسة، عند الضّغط عليها، قامت بقمع نشاط الخلايا في أدمغتها والّتي تمنع الخلايا العصبيّة في الغشاء البطنيّ، وتعلّمت الفئران الضّغط على الدّوّاسة بسهولة وسرعة، والاستمتاع بالإحساس اللّطيف الّذي تمنحه لها. تمّ بعد ذلك حقن الفئران بالفنتانيل. كان الفنتانيل في حدّ ذاته يثبّط نشاط الخلايا، لذا كانت الفئران راضية عن الإحساس اللّطيف الّذي يمنحها إيّاه، وضغطت على الدّواسة بشكل أقلّ. ومن هذا يمكننا أن نستنتج أنّ الفنتانيل يعمل بالفعل بواسطة تثبيط الخلايا العصبيّة الّتي تثبّط الغشاء البطنيّ، ممّا يوفّر للفئران تعزيزًا إيجابيًّا لتناول الدّواء.

لتأكيد آليّة التّعزيز السّلبيّ المرتبطة بالفنتانيل، أيضًا، قام الباحثون بتنشيط الخلايا العصبيّة الّتي تستجيب للفنتانيل في اللّوزة الدّماغيّة وتثير شعورًا سلبيًّا لفترة طويلة، ثمّ قاموا بتزويد الفئران بدوّاسة أوقفت نشاط هذه الخلايا. قام الفئران بالضّغط عليها بشكل متكرّر لتخفيف المعاناة الّتي يشعرون بها بسبب نشاط الدّماغ المميّز للإدمان.

في هذه المرحلة، حُقنت الفئران بالفنتانيل، كما حدث في التّجربة السّابقة. أوقف الفنتانيل نشاط خلايا اللّوزة الدّماغيّة وحسّن مشاعر الفئران، كما قلّل من عدد المرّات الّتي ضغطت فيها على الدّوّاسة. ومن هنا نرى أنّ الفنتانيل يعمل بالفعل على منع الشّعور السّيّئ النّاتج عن نشاط اللّوزة الدّماغيّة، وبالتّالي خلقَ تعزيزًا سلبيًّا يشجّع على استخدامه.

تؤدّي نتائج الأبحاث إلى تغيير الطّريقة الّتي كنّا ننظر بها سابقًا إلى التّعزيزات الإيجابيّة والسّلبيّة الّتي تشجّع الإدمان. ويبدو أنّ هذه ليست جوانب مختلفة لظاهرة واحدة، بل هي آليّات منفصلة مرتبطة بمجموعات مختلفة من الخلايا العصبيّة، وأنّ تنشيط واحدة منها لن يؤدّي بالضّرورة إلى تنشيط الأخرى. ونظرًا للاتّجاه المتزايد نحو استخدام مسكّنات الألم الأفيونية، فإنّ مثل هذه الدّراسات قد تؤثّر على كيفيّة استخدام مسكّنات الألم، وتطوير العلاجات للمساعدة في عمليّة الفطام.

أُجريت الدّراسة الحاليّة على الفئران، وهناك حاجة إلى مزيد من الدّراسات لفحص ما إذا كان لدى البشر أيضًا فصل مماثل بين الآليّات المسؤولة عن التّعزيز الإيجابيّ والسّلبيّ باستخدام أساليب غير جراحيّة. ومع ذلك، فإنّ النتائج تقدّم بالفعل الأمل للجماهير المدمنة على مسكّنات الألم. كلّما فهمنا بشكل أفضل كيفيّة عمل أدمغتنا أثناء عمليّة الإدمان، زادت فرصتنا في تسهيل عمليّة الإقلاع عن الإدمان لدى المدمنين.

استجابة واحدة

  • 🦂

    ممل ...معهد وايزمان ودفيدسون

    ممل ...معهد وايزمان ودفيدسون تطبيع لا باس به / لا فرق بينه وبين المكدونلدز