لا ينتج الأكسجين داخل الماء في أعماق المحيطات، حيث لا تحدث عمليّة التمثيل الضوئيّ، هذا كان الاعتقاد السائد حتّى الآن، إلّا أنّ دراسة جديدة كشفت عن أنّ الأكسجين ينبعث هناك من تكتلات فلزيّة طبيعيّة

كشفت دراسة نُشرت مؤخّرًا أنّ تكتلات فلزية موجودة في أعماق المحيط تُطلق الأكسجين إلى بيئتها المحيطة. ساد الاعتقاد بين العلماء حتّى الآن أنّ مصدر الأكسجين الموجود في أعماق البحر هو الهواء والمياه الضحلة، حيث تُنتجه النباتات والطحالب في عمليّة التمثيل الضوئيّ. أمّا الآن فقد تمّ الكشف عن أنّ الأكسجين ينتج أيضًا في أعماق المحيط، ولا يقتصر مصدره على سطح الماء أو الطبقات المائيّة القريبة منه. ينبعث هذا الأكسجين بشكل دائم ويمُدُّ المنظومة البيئيّة في هذه المناطق، مع أنّ كمّيّته قليلة نسبيًّا. 

تعقُّب مصدر الأُكسجين

أُجريت الدراسة في المختبر وفي الحقل (في أعماق مياه المحيط)، باستخدام خلايا مربّعة تحتوي على معدّات للقياسات. أنزل الباحثون هذه الخلايا إلى قاع المحيط الهادِئ، تركوا مياه البحر تجري داخلها، مُشكّلين بذلك مساحة فاصلة بين المادّة الخاضعة للقياس والبيئة المحيطة، بظروف شبيهة بظروف المختبر الخاضعة للرقابة. قاس الباحثون، بالاستعانة بمعدات القياسات الموجودة داخل الخلايا، عوامل مختلفة داخل المياه العميقة، منها نسبة الأكسجين ودرجة الحرارة ووجود كائنات حيّة الدقيقة. نُشرت نتائج الدراسة مؤخّرًا في مجلة Nature Geosciences. أظهر الباحثون أنّ تكتلاتٍ فلزيّة موجودة في قاع البحر بشكل طبيعيّ، وتحتوي على معادن ثمينة، تُطلق الأكسجين إلى بيئتها المحيطة. اكتُشِف وجود هذه الكتل متعدّدة الفلزات، المُسمّاة بالعُقيدات (أو العُجيرات) عديدة الفلزات أو عقيدات المنغنيز، لأوّل مرّة في  منطقة المحيط الهادئ الواقعة ما بين هاواي والمكسيك. 

ترأس البروفيسور أندرو سويت مان (Sweetman)، الاختصاصي في دراسة المنظومات البيئيّة في أعماق المحيط الهادئ، طاقم الأبحاث. درس سويت مان وشركاه مناطق واسعة مغطّاة بالتكتلات الفلزيّة الغنيّة بالمعادن في قاع البحر. أشارت مجسّات قياس كمية الأكسجين إلى وجود ظاهرة غير متوقّعة: ينتج الأكسجين وينبعث في عمق المحيط، إلى جانب استهلاكه، كما هو متوقّع، من قبل الكائنات المختلفة. حسِب الباحثون أنّ ثَمّ خطأ وقع في القياسات، إلا أنّ نسبة الأكسجين عادت وظهرت عاليةً، على غير المتوقع، مرارًا وتكرارًا، حتّى بعد إعادة ضبط المجسّات وتغيير رفّ حساسيّة القياس. 

استمر تشكيك الباحثين في النتائج غير المتوقّعة، فأجرَوا عدة تجارب من شأنها أن تدحض احتمال أن يكون مصدر الأكسجين هو فقاعات محبوسة في الأجهزة أو في مُكوّنات معدّات البحث، وعلى ضوء تلك الفحوصات الأساسيّة، دُحِضَت هذه الإمكانيّة. أشارت التجارب التي أجراها الباحثون في المختبر في ظروف تحاكي الظروف في أعماق المحيط إلى ازدياد نسبة الأكسجين المذاب في الماء بوجود التكتلات الفلزيّة. 

صرَّح سويت مان لـِ -ScienceNews: "قلنا في هذه المرحلة 'يا إلهي، ها لنا مصدر آخر للأكسجين'"، وأضاف أنّ إنتاج الأكسجين يحدث، على ما يبدو، وبحسب ما يشير إليه التناسب بين وتيرة إنتاج الأكسجين ومتوسّط السطح الخارجي للكتل، على سطح الكتل الفلزيّة. 


صادقت التجارب التي أُجريت في ظروف تحاكي البيئة في أعماق المحيط على أنّ نسبة الأكسجين المذاب في الماء تزداد بوجود الكتل الفلزيّة. في الصورة: تكتل عديد الفلزات جُلب من قاع المحيط إلى المختبر | Franz Geiger/Northwestern University

الأكسجين والهيدروجين، كلاهما معًا وكلٌّ منهما على حِدة

كيف تُنتج التكتّلات الفلزيّة الأكسجين؟ تعمل هذه الكتل، وفق ما اكتشفه الباحثون، كَبطّاريات صغيرة جدًّا تُوَلّد فرقًا في الجهد الكهربائي مقداره 0.95 فولت بين عدة نقاط على سطحها. يكاد هذا القدر من الفولتات يساوي فرق الجهد الذي تولده بطّارية AA عاديّة، وهو يكفي على ما يبدو، لِتفكيك جزيئات الماء إلى هيدروجين وأكسجين. تحتوي كتل المنغنيز، التي حظيت بلقب "بطّاريات الصخور"، بالفعل على نسب عالية من الفلزات التي تستخدم في إنتاج البطّاريات، مثل النحاس والمنغنيز والكوبالت. 

عمليّة تفكيك جزيئات الماء إلى هيدروجين وأكسجين هي عمليّة معروفة وشائعة. تتكوّن جزيئة الماء من ذرّتين من الهيدروجين مربوطتين إلى ذرّة اكسجين واحدة بروابط تساهميّة (كوفلنتية)، أي عن طريق مساهمة كلا الذرتين بالالكترونات التي تكوّن الرابطة. تتفكك جزيئات الماء إلى جزيئات هيدروجين و جزيئات أكسجين عند تمرير تيار كهربائي من خلال الماء، في العملية التي تسمى التحليل الكهربائي (الإلكترولايزيس). يمكن أن تُنتج مجموعات معينة من هذه الكتل الفلزية في ظروف معينة، حسب ما يعتقد الباحثون، جهدًا أعلى من 1.5 فولت، هو الحد الأدنى من الجهد اللازم لتفكيك جزيئات الماء إلى هيدروجين وأكسجين في عملية التحليل الكهربائيّ. يُلقّب الأكسجين الذي ينتج من هذه العمليّة بـِ"الأكسجين المُظلم"، بمعنى أنّه ينتج في عمليّة لا تتطلّب وجود الضوء، بخلاف الأكسجين الذي ينتج في عمليّة التمثيل الضوئيّ التي تقوم بها النباتات والطحالب، والتي لا تتمّ بغياب الضوء. 

قد يُفسّر انبعاث الأكسجين من هذه الكتل سبب نموّ أكثر من نصف التنوّع البيولوجيّ في هذه النظم البيئيّة على سطحها الخارجيّ الجامد والقاسي. يبقى من الجدير، على الرغم من ذلك، فحص مدى تعلّق هذه الكائنات بالأكسجين المنبعث من الفلزات. 


صرفت شركات البناء أنظارها نحو تلك التكتلات الفلزيّة. يوضّح التخطيط عمليات التعدين تحت الماء | Mikkel Juul Jensen / Science Photo Library 

المصالح الاقتصاديّة في أعماق البحار والمحيطات

صرفت شركات التعدين أنظارها تجاه تلك التكتّلات الفلزيّة، التي تحتوي على فلزات نادرة تستخدم في الكثير من التطبيقات التكنولوجيّة. قد تؤثّر عمليّة التعدين، مع ذلك، على المنطقة التي يجري جمع الكتل منها، وكذلك على المحيط الأبعد، فمن المتوقّع أن تَعلو سحب من الغبار ثم ترسب على مناطق شاسعة، كما يحدث بالقرب من مواقع البناء على اليابسة. ليس من الواضح في هذه المرحلة مدى الضرر البيئيّ الذي قد ينجم عن ذلك. توجد لدراسة مثل هذه المنظومات الفريدة أهمّيّة من جوانب أخرى، تتعدّى التّأثير المباشر لهذه الكتل على البيئة المحيطة الموضعيّة. لا بد أن يؤدي الكشف عن هذه الآليّة لانبعاث الأكسجين إلى توسيع فهمنا ما يتعلّق بعمليّات إنتاج الأكسجين على الكرة الأرضيّة، ويجعلنا نعيد التفكير في النظريّات المتعلّقة ببداية الحياة ونشأتها على الكرة الأرضيّة. 

0 تعليقات