أكدّت دراسة حديثة أنّ الأطفال الّذين ولدوا خلال الحرب العالميّة الثّانية، خلال فترة تقنين السّكّر (وضع موازنة للسّكّر) في المملكة المتّحدة (Rationing in the United Kingdom)، يعانون بشكل أقلّ من مرض السّكّري أو ارتفاع ضغط الدّم في مراحل لاحقة من حياتهم
تُعتبر السّنوات الأولى من حياتنا بالغة الأهمّيّة لنموّنا، وقد أظهرت العديد من الدّراسات أنّ التّغذية منخفضة الجودة خلال هذه السّنوات قد تؤثّر على صحّتنا في مراحل لاحقة من حياتنا، بما في ذلك زيادة خطر الإصابة بالسّمنة ومرض السّكّري. مع ذلك، تركّز معظم الأبحاث في هذا المجال على الأنماط الغذائيّة العامّة، وهناك نقص في الدّراسات عالية الجودة الّتي تبحث في العلاقة بين مكوّنات غذائيّة محدّدة وتطوّر الأمراض في مرحلة لاحقة من الحياة.
أظهرت دراسة جديدة نُشرت في مجلّة "ساينس" (Science) التّأثير المحتمل للإفراط في تناول السّكّر خلال أوّل ألف يوم من حياة الطّفل - بدءًا من لحظة الإخصاب - على خطر الإصابة بمرض السّكّري من النّوع الثّاني أو ارتفاع ضغط الدّم في مرحلة لاحقة من الحياة. لجمع البيانات، اِختار الباحثون عيّنة من السّكّان باستخدام نهج "التّجربة الطّبيعيّة"، الّذي يعتمد على أحداث تحدث بشكل طبيعيّ، وتكون خارج سيطرة الباحثين. قد تشمل هذه العوامل تغييرات كبيرة في القانون أو السّياسة الحكوميّة، الكوارث الطّبيعيّة، أو الظّروف البيئيّة المتغيّرة. يتيح هذا النّهج فحص تأثير حدث معين على مجموعات سكّانيّة مختلفة، مع محاكاة توزيع عشوائيّ تقريبًا لمجموعات تجريبيّة منفصلة، على غرار الدّراسات السّريريّة. وفي الوقت نفسه، فإنّنا لا نفقد الميزة الكامنة في تحليل الظّواهر الواقعيّة، بكلّ تعقيداتها.

بعد انتهاء تقنين السّكّر، تضاعف استهلاك السّكّر والحلويات بين عشيّة وضحاها تقريبًا. تقنين الغذاء في المملكة المتّحدة خلال الحرب العالميّة الثّانية | Michelham Priory, World War II Gallery: Typical wartime rations by Michael Garlick/Wikimedia
نهاية التّقنين
في أيلول عام 1953، اِنتهت قرابة عشر سنوات من القيود المفروضة على استهلاك السّكّر في المملكة المتّحدة، وذلك بسبب الأزمة الاقتصاديّة الحادّة الّتي واجهتها بعد الحرب العالميّة الثّانية. بعد انتهاء التّقنين، تضاعف استهلاك السّكّر والحلويات بين عشيّة وضحاها تقريبًا. أظهرت الدّراسات الاستقصائيّة الّتي أجراها الباحثون في تلك الفترة أنّ متوسّط تناول السّكّر اليوميّ لدى البالغين ارتفع من حوالي 40 جرامًا إلى 90 جرامًا. كما قدّر الباحثون أنّ 77 في المائة من الزّيادة في السّعرات الحراريّة المتناولة كانت بسبب زيادة استهلاك السّكّر.
اِستخدم الباحثون هذا الحدث غير المعتاد لمقارنة مجموعتين: الأولى ضمّت أشخاصًا ولدوا قبل فترة وجيزة من إلغاء تقنين السّكّر، ممّا يعني أنّهم استهلكوا كمّيّات محدودة من السّكّر خلال مراحل حياتهم المبكرة، بينما شملت المجموعة الثّانية أشخاصًا ولدوا أو كانوا أجنّة بعد انتهاء سياسة التّقنين مباشرة، وبالتّالي استهلكوا كمّيّات أكبر بكثير من السّكّر. اِفترض الباحثون أنّ الاستهلاك المحدود للسّكّر أثناء الحمل والطّفولة المبكرة قد يقلّل من خطر الإصابة بمرض السّكّري أو ارتفاع ضغط الدّم في وقت لاحق من الحياة، أو على الأقلّ تؤخّر تطوّر هذه الحالات الطّبّيّة.
شملت الدّراسة نحو 60 ألف شخص ولدوا بين تشرين الأوّل عام 1951 وآذار عام 1956، ومن بينهم نحو 38 ألف شخص نشأوا في ظلّ سياسة تقنين السّكّر، و 22 ألف شخص نشأوا دون قيود على استهلاك السّكّر. كانت الخصائص المتبقّية مماثلة في كلتا المجموعتين. أظهرت النّتائج أنّ خطر الإصابة بالمرض ازداد بشكل طبيعيّ مع التّقدّم في السّنّ لدى كلا المجموعتين، لكنّه كان أبطأ لدى أولئك الّذين عاشوا خلال فترة التّقنين.

شملت الدّراسة أشخاصًا ولدوا بين عامي 1951 و1956، ومن بينهم نحو 38 ألف شخص نشأوا في ظلّ ظروف تقنين، و22 ألف شخص نشأوا دون قيود على تناولهم السّكّر. طفلة تلعق مصّاصة | MillaF, Shutterstock
مرض السّكّري، ضغط الدّم والسّمنة
أظهرت الدّراسة أنّ الأطفال الّذين نشأوا خلال فترة التّقنين كانوا أقلّ عرضة للإصابة بمرض السّكّري من النّوع الثّاني في مرحلة البلوغ بنسبة 15 في المائة من الأطفال الّذين نشأوا دون قيود. وإذا استمرّ تقييد تناول السّكّر بعد عمر السّتة أشهر، فإنّ الخطر ينخفض بشكل أكبر، بنسبة تقترب من 40 في المائة.
كما لوحظ منحًى مشابه فيما يتعلّق بتطوّر ارتفاع ضغط الدّم، حيث كان خطر الإصابة أقلّ بنسبة 21 في المائة لدى الأشخاص الّذين بلغوا سنة واحدة أو أكثر في نهاية التّقنين، مقارنة بأولئك الّذين استهلكوا السّكّر دون قيود. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت النّتائج أنّ انخفاض تناول السّكّر في مرحلة الطّفولة المبكرة أدّى إلى تأخير ظهور مرض السّكّري لمدّة أربع سنوات وتأخير سنّ تشخيص ارتفاع ضغط الدّم لمدّة عامين، كما انخفض خطر الإصابة بالسّمنة بنسبة 30 بالمائة.
وأخيرًا، رغم أنّ الحدّ من تناول السّكّر أثناء الحمل كان مفيدًا في تقليل خطر الإصابة بهذه الامراض، إلّا أنّ التّأثير الوقائيّ كان قويًّا بشكل خاصّ عندما استمرّ انخفاض تناول السّكّر بعد ستّة أشهر من العمر. وبناء على دراسات سابقة، يقدّر الباحثون أنّ تأخير تشخيص مرض السّكّري لمدّة أربع سنوات قد يؤدّي إلى إطالة عمر المرضى بنحو عام ونصف.
رغم توصّل الباحثين لنتائج قويّة في الدّراسة، إلّا أنّهم أشاروا إلى أنّ البيانات الّتي استخدموها، من قاعدة بيانات البنك البريطانيّ الطّبّيّ، لا تمثّل بالضّرورة عامّة النّاس، لكونهم يمثّلون فئة السّكّان الأكثر ثراءً وصحّة من المتوسّط. بالإضافة إلى ذلك، لم تقم الدّراسة بقياس النّظام الغذائيّ للمشاركين بشكل مباشر، وبالتّالي من المستحيل أن نحدّد على وجه اليقين أنّ تناول السّكّر كان العامل الغذائيّ الوحيد الّذي تغيّر خلال الفترة المدروسة. وقد تكون هناك أيضًا اختلافات في مؤشّرات أخرى، مثل النّشاط البدنيّ والتّدخين. ومع ذلك، بذل الباحثون جهودًا كبيرة لمنع مثل هذه الانحرافات. وتعزّز النّتائج الحاجة إلى زيادة الاستثمار في التّعليم (التّرشيد) ضدّ استهلاك الأطعمة السّكّريّة، وخاصّة في السّنوات الأولى من حياتنا.