دراسة جديدة تسلّط الضّوء على الآليّات الّتي تتبنّاها المشطيّات (كائنات لا فقاريّة هلاميّة) لتجنّب الانسحاق/التّهشّم تحت الضّغوط الهائلة الّتي تميّز أعماق البحار

مقاومة الضّغط العالي في أعماق البحار

تعيش في أعماق البحار كائنات رخوة للغاية، كقناديل البحر والمشطيّات (Ctenophores)، والّتي تتميّز بخلوّها من الهياكل العظميّة. لكن كيف تتمكّن هذه الكائنات من الحفاظ على شكلها، وتجنّب الانسحاق/التهشّم تحت الضّغط الهائل للمياه؟ كشف باحثون من الولايات المتّحدة أنّ جزءًا من الإجابة يكمن في غشاء الخليّة: إذ تكيّفت تركيبة الدّهون (Lipids) في أغشية خلايا بعض أنواع المشطيّات، الّتي تعيش في أعماق البحار لتحمّل الضّغط العالي.

البيئة العميقة

تعدّ أعماق البحار أكبر موطنًا للحياة على كوكب الأرض. كلّما غصنا أعمق، زاد الضّغط الجوّيّ والمائيّ. يعادل الضّغط عند سطح البحر 1 بار (وحدة ضغط)، لكنّه يزداد بمقدار 1 بار تقريبًا كلّما نزلنا 10 أمتار. يبلغ متوسّط عمق قاع المحيط حوالي 3,500 مترًا، حيث يصل الضّغط إلى 350 ضعفًا مقارنةً بضغط سطح البحر. حتّى اليوم، لم تُفهم تمامًا التّكيّفات البيولوجيّة الّتي تمكّن الكائنات الحيّة من تحمّل هذا الضّغط الهائل.

تأثير الضّغط والبرودة على غشاء الخليّة

يؤثّر الضّغط والبرودة على الخلايا التي تكوّن جميع الكائنات الحية، وكذلك على الغشاء الّذي يحيط ويحدّ هذه الخلايا. يتألّف غشاء الخليّة من طبقة مزدوجة من الدّهنيّات، حيث يحتوي كلّ جزيء دهنيّ على "رأس" محبّ للماء، و"ذيل" كربوني مزدوج كارهٍ للماء وغير قابل للذّوبان فيه. في التّركيبة المزدوجة، تترتّب الدّهنيّات بطريقة لافتة للانتباه، حيث تتّجه الرّؤوس نحو البيئة المائيّة داخل الخليّة وخارجها، بينما تتّجه الذّيول نحو بعضها البعض لتجنّب ملامسة الماء. تختلف مكوّنات غشاء الخليّة بين الكائنات، وتشمل دهونًا صلبة مثل الكوليسترول، الّذي يعزّز صلابة الغشاء، وأخرى مرنة مثل الجليكوليبيدات. تؤثّر هذه التّركيبة على مرونة الغشاء ووظائفه، وبالتّالي فتركيبتُها مصيريّة لحيويّة الخلايا إلى حدّ كبير.


 تتجمّع جزيئات الدّهنيّات المكوّنة لغِشاء الخليّة في طبقة مزدوجة: الرّؤوس (المبينة في الصورة كدوائِر) تواجه الخارج والدّاخل، بينما الذّيول تتّجه نحو بعضها لتجنّب الماء. توضيح بنيويّ لغشاء الخليّة مع الكوليسترول | Shutterstock, Alfa MD

التّكيّف في أعماق البحار
جمع الباحثون أنواعًا مختلفة من المشطيّات من نصف الكرة الشّماليّ، حيث تُظْهِر هذه الكائنات تكيّفات متنوعة حسب بيئتها: بعضها يعيش في مياه دافئة، وبعضها في مياه باردة، ومنها من يعيش في مياه ضحلة أو عميقة. تمتاز المشطيّات بجسم هلاميّ عديم الهيكل، مثل قناديل البحر، رغم البعد التّطوريّ الكبير بينهما. وعند تعريض المشطيّات المأخوذة من المياه الضّحلة لضغط مرتفع دون تغيير في درجة الحرارة، فقدت السّيطرة على حركتها، وبدأت بالسّباحة بشكل عشوائيّ وعنيف، ممّا أدّى إلى تهشّم أجسامها الهشّة نتيجة تعطّل وظائف الجهاز العصبيّ. بالمقابل، تفكّكت المشطيّات الّتي تعيش في أعماق البحار عند إخراجها إلى السّطح، حتّى في درجات الحرارة المنخفضة المماثلة لبيئتِها الأصليّة.


الباحثون جمعوا أنواعًا مختلفة من المشطيّات من نصف الكرة الشماليّ. غطّاسون يجمعون مشطيّات من المياه الضّحلة قرب هاواي | 2021 Jacob Winnikoff

استخلص الباحثون الدّهونَ من أغشية خلايا المشطيّات، وفحصوها تحت ضغوط مختلفة باستخدام تقنيّات مثل المجهر الفلوري وتشتيت الأشعّة السّينيّة. في إحدى الأنواع الّتي تقطن أعماق البحر (Platyctenida sp. T)، لم تتجمّع الدّهون في غشاء خلويّ تحت ضغط منخفض (1 بار)، بل شكّلت عدّة أنابيب. أمّا في نوع آخر من مشطيّات المياه الضّحلة (Beroe Cucumis)، فقد شكّلت الدّهنيّات المستخلصة منها أغشية خلويّة في ضغط منخفض، لكنّها بدأت بالتّحوّل إلى حالة هلاميّة عند ضغط 1,000 بار. 

وعندما دقّق الباحثون في تركيبة الدّهنيّات في أغشية المشطيّات التي فُحِصت، وجدوا أنّ أغشيّة خلايا مشطيّات الأعماق تحتوي على نسبة عالية من دهون تُسمّى بلاسمالوجينات (Plasmalogens)، والّتي تتّخذ هيئة الأشكال المخروطيّة في الضّغط المنخفض، وتجعل الغشاء أكثر صلابةً. أمّا تحت ضغط مرتفع، فتتّخذ أشكالًا أسطوانيّة، ممّا يزيد من سيولة الغشاء. مع ذلك، التّركيزات العالية من البلاسمالوجينات المخروطيّة قد تؤدّي إلى تفكّك الغشاء، وهو تأثير مدمّر للخلايا. لمعرفة كيفيّة تأثير البلاسمالوجينات على الخلايا، حفّز الباحثون بكتيريا الإشريكيّة القولونيّة (Escherichia coli) على إنتاج البلاسمالوجينات. وجدوا أنّ هذه الدهون ساعدت البكتيريا على البقاء تحت ضغط أعلى، مقارنةً بالإشريكيّة القولونيّة العاديّة.


 دهون مشطيّة من أعماق البحر تحت ضغط منخفض (1 بار) شكلت أنابيب بدلًا من غشاء خلويّ. مشطيّة من نوع Bathocyroe تعيش تحت ضغط مرتفع | Courtesy of the Lyman group and Jacob Winnikoff/UC San Diego

الحياة في بيئة غريبة

تتكيّف تركيبة الدّهون لكلّ نوع من المشطيّات، لتتناسب مع الضّغط في بيئتها. وهذا ما يفسّر السبب من وراء تفكّك مشطيّات الأعماق عند نقلها إلى السّطح. على النّقيض، تفقد مشطيّات المياه الضّحلة مرونة أغشيتِها، وتتحوّل إلى هلام عند تعرّضها لضغطٍ عالٍ، ممّا يعطّل الوظائف العصبيّة، ويؤدّي إلى فقدان السّيطرة على الحركة.

تُعدّ أعماق البحار موطنًا لكائِنات قد طوّرت تكيّفات للبقاء في بيئة معادية وغريبة عن حياتنا اليوميّة، وقد دفعت هذه الاختلافات البعض لوصفها وكأنّها حياة على كوكب آخر. ومن هنا، تفتح أبحاث كهذه آفاقًا جديدة لفهم قدرة الكائنات على التّكيّف مع البيئات القاسية، وقد تساعد يومًا ما في تطوير تقنيّات بشريّة للبقاء في ظروف مشابهة.

0 تعليقات