الرّئات الخضراء في خطر: كيف يمكن لأفعال صغيرة أن تؤدّي إلى انهيار غابات الأمطار
الغابات الاستوائيّة المُطيرة، الّتي تُعرف غالبًا باسم "رِئات الأرض الخضراء"، تؤدّي دورًا حاسمًا في الحفاظ على التوازن البيئيّ. فهذه النظم البيئيّة النابضة بالحياة تزخر بتنوّع بيولوجيّ فريد، وتُعد ضروريّة لتنظيم المناخ، واحتجاز الكربون والتحكّم في دورة المياه. ومنذ عام 1990، فُقد نحو 17% من هذه الغابات، وهو تراجع كارثيّ قد أسفر عن إطلاق كمّيّات هائلة من الكربون المخزَّن في الأشجار إلى الغلاف الجوّيّ، ممّا يُضعف قدرة كوكب الأرض على امتصاص الانبعاثات الكربونيّة الكثيفة المتوقّعة مستقبلًا.
من هنا، تتّضح أهمّيّة حماية الغابات الاستوائيّة وترميمها باعتبارهما ركيزتَيْن أساسيتَيْن في التصدّي لتغيّر المناخ. لذا، من الضروريّ فهم التأثيرات البشريّة على هذه الغابات بدقّة عالية وقياسها بصورة منهجيّة، مع إيلاء اهتمام خاصّ للأضرار التي تبدو ثانوية في ظاهرها، لكنّها تتراكم تدريجيًا وتُقوّض قدرة الغابة على صون النظام البيئيّ الذي تعتمد عليه.

تُعدّ حماية الغابات الاستوائيّة وترميمها من العناصر الأساسية في جهود التصدّي لتغيّر المناخ. الغابة الاستوائيّة | Shutterstock, Panga Media
نظرة من الفضاء على الغابة
في السنوات الأخيرة، شهد الوعي المجتمعيّ بقضيّة إزالة الغابات وتبعاتها البيئية تناميًا ملحوظًا. ورغم أنّ هذا الوعي ساهم في كبح بعض الأنشطة المتطرّفة، مثل القطع الجائر أو الحرق الشامل للغابات، فإنّ أنشطة أُخرى استمرّت بالتوازي دون أن تُواجَه بردود فعل حاسمة، كالإزالة الانتقائيّة للأشجار لتوسيع الرقعة الزراعيّة، أو تنفيذ مشاريع بنية تحتيّة داخل الغابات، لأنّها لم تُصنَّف، في نظر كثيرين، كمهدِّد فعليّ للبيئة. مع ذلك، أظهرت الأبحاث أنّ هذه "الأفعال الصغيرة" تتراكم بمرور الوقت، وتُحدِث ضررًا بالغًا لا يقلّ خطورة عن التدمير الواسع النطاق للغابات، بل قد يتجاوزه في بعض الحالات.
في دراسة حديثة نُشرت في مجلة Nature العلميّة، حلّل الباحثون بيانات من مشروع تابع لوكالة الفضاء الأمريكيّة "ناسا"، يُعرّف باسم تحقيق ديناميكيات النظم البيئيّة العالميّة (GEDI – Global Ecosystem Dynamics Investigation)، ويعتمد على جهاز ليزر متطوّر مُثبّت على متن محطّة الفضاء الدوليّة. تُتيح هذه البيانات بناء خريطة ثلاثيّة الأبعاد للبنية المعقدة التي تُشكّلها قمم الأشجار – أي غطاء الغابة الاستوائيّة المُطيرة – فضلًا عن رسم توزيع دقيق للأوراق والأغصان ضمن هذا الغطاء. ودمج هذه المعلومات مع كمّ هائل من صور الأقمار الصناعيّة التي جُمعت منذ تسعينيّات القرن الماضي حتّى اليوم، تمكّن الباحثون من حساب مدى الضّرر اللاحق بالغابات، عبر قياس انخفاض ارتفاع الغطاء الشّجريّ وتراجع الكتلة الحيويّة للأشجار.

حسب الباحثون مدى تضرّر الغابات، مع التركيز على الانخفاض في ارتفاع مظلّة الغابة والتراجع في الكتلة الحيويّة للأشجار. يُظهر الرسم البيانيّ ارتفاع مظلّة الغابة في الغابات غير المتضرّرة (في الأعلى) مقارنةً بالغابات التي تضرّرت بسبب القطع، الحرائق أو عوامل أخرى. ويمكن ملاحظة أنّ المظلّة في الحالة الثانية أقلّ ارتفاعًا بشكل ملحوظ. | من مقال Bourgoin, C. et al.. Nature 2024
شقّ الغابة إلى نصفين
من بين التأثيرات البشريّة التي غالبًا ما يُغفل عنها، ما يُعرف بـ"تأثير الحافّة" (Edge Effects)، وهي ظاهرة تُشير إلى التغيرات البيئيّة التي تطرأ على أطراف الغابات. فعند حدود الغابة، سواء كانت بمحاذاة طريق، منطقة زراعيّة، أو مواقع شهدت قطعًا أو حرقًا منظّمًا، تكون الأشجار أكثر عرضةً للاضطرابات البيئيّة، ممّا يجعلها مهدّدة بدرجة أكبر بالتلف أو الفناء. كذلك، فإنّ إنشاء حدود داخليّة في الغابة نفسها، من خلال شقّ الطرق أو مدّ خطوط الكهرباء، يؤدّي إلى تجزئتها إلى رقع صغيرة، ممّا يُفاقم مستوى الاضطراب البيئيّ ويُضعف قدرتها على الحفاظ على التوازن الإيكولوجيّ.
عندما يسير الناس في طريق يخترق غابة، ويرون الأشجار تمتد على جانبيْهم، يتولّد لديهم الانطباع بأنّهم داخل الغابة نفسها، وأنّها تُحيط بهم من كلّ جانب. غير أنّ هذا الانطباع مضلّل؛ إذ إنّ الطّريق يشطر الغابة إلى جُزأين منفصلين، ولا يشكّل استمرارًا متصلًا للنّظام البيئيّ. هذا الانقسام يُضعف الأشجار والنباتات القريبة من حوافّ الطريق، ويجعلها أكثر عرضةً للعوامل البيئيّة المُدمّرة. كما يؤدّي إلى إضعاف التواصل الطبيعيّ بين الأشجار، نتيجة تضرّر شبكة الفطريّات المرتبطة بجذورها، وهي الشبكة التي تنقل الجزيئات العضويّة الضروريّة لعمليّات البناء الحيويّ، إضافةً إلى الإشارات الكيميائيّة بين الأشجار. ويُعرّض هذا الانقسام في البنية الغابيّة الحيوانات أيضًا لخطر الإصابة أو الانقراض في تلك المناطق، ويُعد عاملًا رئيسيًّا في تراجع الكتلة الحيويّة تهدّد استمراريّة النظام البيئيّ.
حلّل الباحثون البيانات المأخوذة من مناطق الحَواف، واكتشفوا مدى عمق "تأثير الحافّة": فقد انخفض ارتفاع حِجاب الغابة (أي قمة الأشجار) بنسبة تُقدّر بحوالي 20% عند الأطراف، كما سُجّل انخفاض ملموس في الكتلة الحيويّة للأشجار. في حين أشارت أبحاث سابقة إلى أنّ تأثير الحافّة يمتدّ حتّى عمق يُقارب 120 مترًا داخل الغابة، لكنّ البيانات الجديدة تُظهر أنّ هذا التأثير قد يتوغّل لمسافة تتجاوز الكيلومتر.

بسبب انقسام الغابة، تُصبح الأشجار والنباتات القريبة من حافّة الطريق أكثر عرضةً للضرر. طريق يمرّ داخل غابةٍ استوائيّة. | Shutterstock, Zodar
تأثير الدومينو في الغابة
إلى جانب الضرر الذي يلحق بمظلّة الغابة والكتلة الحيويّة، تبيّن للباحثين أنّ تأثير الحافّة يتراكم مع مرور الوقت، ويُحدث تأثيرًا طويلَ الأمد على استقرار الغابة بأكملها، بل ويُضعف قدرتها على التعافي من الاضطرابات البشريّة، وحتّى من الضغوط الطبيعيّة مثل تغيّرات درجات الحرارة والحرائق الطبيعيّة. في بعض الغابات، لم تُظهر مظلّة الأشجار ولا الكتلة الحيويّة، أي مؤشّرات على التعافي حتّى بعد مرور ثلاثين عامًا على حدوث اضطراب، كشقّ طريق مثلًا، وقدّر الباحثون أنّ الوصول إلى تعافٍ كامل قد يستغرق قرونًا. علاوةً على ذلك، أظهرت البقع التي انخفض فيها ارتفاع المظلّة بأكثر من 50% عدم القدرة على الاستعادة الذّاتيّة، بل استمرّت في التّدهور إلى أن اقتربت من حالة اجتثاث شبه تام.
صحيح أنّ عمليّات الإزالة الكاملة وقطع الأشجار لها تأثير فوريّ وواضح، إلّا أنّ هذه الدراسة تُسلّط الضوء على جوانب أخرى من تأثير النشاط البشريّ، غالبًا ما تكون غير مرئيّة للعين المجرّدة ولا تحظى بالاهتمام العامّ الكافي. لذلك، يجب على صانعي السياسات في مجالات إدارة الغابات والمناطق الطبيعيّة أن يدركوا تعقيد التأثيرات البشريّة على صحّة الغابات، وأن يُفهموا أنّ سلسلة من التدخّلات "البسيطة" أو "الهامشيّة" من حيث الظاهر قد تؤدّي في النهاية إلى انهيار النظام البيئيّ للغابة بأكملها. يكتسب هذا الفهم أهمّيّة خاصّة في سياق تخطيط المشاريع الإنشائيّة داخل الغابات أو بالقرب منها. ومع تبنّي تقنيات متقدّمة واستراتيجيّات حماية شاملة، يمكننا المضي قدمًا نحو الحفاظ على هذه الأنظمة البيئيّة الحيويّة من أجل الأجيال القادمة. وتؤكّد نتائج هذه الدراسة على الحاجة الملحّة إلى جهود عالميّة مستمرّة للحفاظ على الغابات الاستوائيّة المطيرة، كونها إحدىالرّكائز الأساسية لتوازُن كوكب الأرض.