اكتشفت دراسة جديدة مبنى عمره 65 ألف سنة استخدمه الإنسان النياندرتال (البشر البدائيّون)، حسب ادّعاء الباحثين، لاستحضار الزّفت (القطران)

حظي الإنسان النياندرتال بسمعة سيّئة بغير حق. كانت البداية بِالدّراسات الّتي أُجريت في القرن التّاسع عشر وفي النّصف الأوّل من القرن العشرين، والّتي عرضت أقرباءَنا كمخلوقات بدائيّة، متنمّرة، أذرعها سميكة وأدمغتها صغيرة وغير قادرة على التّفكير. تجذّرت هذه الرّؤية في الجمهور وشاعت ليصبح من الصّعب اجتثاثها - على الرّغم من تزايُد الشّهادات، الّتي زوّدها العلماء منذ عشرات السّنين، الدّالّة على أنّ الإنسان النياندرتال لم يكن أحمقًا كما وُصِف. صنع النياندرتال أدوات متطوّرة، من الحجر ومن الخشب أيضًا، وصاد في مجموعات وأنتج الفنون. وماذا بالنّسبة لدماغه؟ كان حجمه، على الأقلّ، مثل حجم دماغ الإنسان. 

استخدم النياندرتال النّار، مع أنّه لم يكن أوّل من استخدمها - يبدو أنّ هومو إريكتوس (الإنسان منتصب القامة) قد تعرّف على أسرار النار، قبل ما يزيد عن مليون سنة. استخدم النياندرتال النّار ليس للطهي فحسب، بل لتصنيع موادّ جديدة - فقد وُجدت حجارة عليها زفت (قطران) صُنع من الشّجر، وذلك في أماكن مختلفة عاش فيها الإنسان النياندرتال. إنّ إنتاج الزّفت هو مهمّة معقّدة، إذ يجب اختيار المادّة الخام الصّحيحة، ومراقبتها لئلا تشتعل خلال التّسخين، وكي لا ترتفع درجة حرارتها كثيرًا، وضبط كمّيّة الأكسجين التي تتلامس معها كي لا تحترق. 

إنّ استخدامات الزّفت كثيرة، إذا حُضِّرت بالشّكل الصّحيح: الزّفت مادّة لزجة متكاثفة وهي حارّة، وتتصلّب عندما تبرد. يمكن استخدامها كمادّة لاصقة قويّة جدًّا، لإلصاق رؤوس الرّماح الحجريّة بالعصيّ الخشبيّة. وبالفعل قد استُخدم الزّفت الّذي وُجِد على الحجارة لهذا الغرض - يفترض الباحثون أنّ الحجارة كانت موصولةً في الماضي بِرماح خشبيّة، وأنّ هذه الرّماح قد تفتَّت واختفتْ مع مرور الزَّمن.  

يُمكن إنتاج الزّفت من الشّجر، وفقًا لدراسة صدرت سنة 2017، باستخدام الأدوات الّتي كانت متوفّرة لدى الإنسان النّياندرتال قبل عشرات آلاف السّنين - إلّا أنّ الدّراسة لم تجزم بأنّ هذه هي الطّريقة الّتي استخدمها حقًّا الإنسان القديم. أمّا الآن فقد وصف باحثون من إسبانيا، في مقال جديد، مبنى وجدوه داخل مغارة في جبل طارق، ويدّعون أنّه استُخدم لهذا الغرض تمامًا. استعاد الباحثون عمليّة إنتاج الزّفت في مبنى مشابه باستخدام الموادّ ذاتها، وتبيّن لهم أنّ تقنيّة الإنتاج تعمل جيّدًا.


من اليسار إلى اليمين: إشعال أوراق اللوتس الراتنجي؛ تغطيتها بخليط من الرمل والتراب وروث الطيور؛ تغطية بالأغصان والعشب اليابس؛ عصر الراتنج؛ الخلط مع الرماد للحصول على الزفت. استعادة عمليّة إنتاج الزفت | أُخذ من Ochando et al 

كيف يُصنّع الزفت؟

اكتُشف المبنى في مغارة فانغارد (Vanguard) في جبل طارق، قريبًا من شاطئ البحر، وحُدّد تاريخه نحو قبل 65 ألف سنة - قبل أن وصل الإنسان المعاصر، هومو سبيانس (الإنسان العاقل)، إلى أوروبا. وُجدت حفرة صغيرة محفورة في أرضيّة المغارة، يزيد قطرها قليلًا عن عشرين سنتمترًا، وعمقها أقلّ من عشرة سنتيمترات. كانت الحفرة مطليّة برواسب داكنة، فحصها الباحثون بطرق مختلفة ليتعرّفوا على مبناها الكيميائيّ. وجد الباحثون أنّ هذه الرواسب تحتوي على رماد، فحم وبلورات - افترضوا أنّها بلّورات من الزّفت - وذرّات من الزّنك والنّحاس. تدلّ هذه العناصر الفلزيّة، وفقًا للباحثين، على وجود روث الطّيور - و افترضوا أنّه خُلط مع الرّمل لتغطية الحفرة، كي لا تنكشف الموادّ المغطّاة به للنّار مباشرةً. 

مصدر الفحم داخل الحفرة هو عدّة نباتات، اللّوتس الرّاتنجيّ  (Cistus ladanifer) واحدة منها. من جيءَ على ذكر هذه النّبتة لأنّ أوراقها تُنتِج، كما يمكن الاستقاء من اسمها، كمّيّة كبيرة من الرّاتنج الزّيتيّ المعروف باللابدانوم (labdanum)، الّذي استخدم في الماضي في صناعة العطور والطّبّ الشّعبيّ، كما يمكن إنتاج الزّفت منه. 

استعاد الباحثون تتابع العمليّات الّتي أجراها هؤلاء الأشخاص القدماء، وفقًا لما وُجد في المغارة، لإنتاج الزّفت، ثمَّ نفذوا تلك العمليّات بأنفسهم، في مبنى يشبه المبنى الأصليّ في مقاساته، الّذي حُفِرَ ليس ببعيد عن المكان الأصليّ. ملأوا الحفرة بأوراق اللّوتس الرّاتنجيّ اليانعة، ثمّ غطّوها بخليط من الرّمل والتّراب وروث الطّيور. ثمّ أشعلوا أغصانًا من اللّوتس الرّاتنجيّ المخلوط بعُشب يابس فوق الغطاء. دام اشتعال النّار حوالي ساعتيْن، أزالوا بعدها الغطاء وأخرجوا الأوراق، فتدفّق منها، في أعقاب التّسخين، الكثير من الراتنج. عصر الباحثون الأوراق وسكبوا العصارة داخل أصداف كبيرة - وهي الأدوات الّتي كانت متوفّرة لدى النياندرتال في هذه المنطقة - وسخّنوها على موقد، ومَزجوا معها القليل من الرّماد. نتيجةً لذلك حصلوا على زفت داكن، لزج وكثيف. استطاع الباحثون صنع رمح باستخدام الزّفت الّذي حصلوا عليه قبل أن يجفّ ويصلَبّ، و ألصقوا بواسطته حجرًا محدّدًا طرفه بعمود خشبيّ.  


استخدم الباحثون الزّفت اللّزج الّذي أنتجُوه لِلصق حجر محدّد طرفه بعمود خشبيّ. الرّمح في رأسه حجر طرفه محدد | מתוך Ochando et al

طرق إنتاج متطوّرة

تشير الدّراسة إلى أنّ الإنسان القديم استطاع إنتاج الزّفت في مبنى داخل مغارة - لكن ليس جميع الباحثين مقتنعين أنّه قام بذلك بالفعل. صرّح عالم الآثار الألمانيّ باتريك شميدت (Schmidt) في مقابلة مع موقع Science: "يبدو التّفسير الّذي قدّمه الباحثون، بأنّ النياندرتال وضعوا نبتة اللّوتس في حفرة وحرقوها، يرتكز إلى أساس متين". لكنّه أضاف أنّه من الصّعب الإقرار بأنّ هدفهم من ذلك كان تصنيع الزّفت حقًّا. اقترح باحثون آخرون استخدامات أُخرى للرّاتنج: كعطور، لاستخدامات طبّيّة أو كمادّة مضادّة للماء.  

"أكثر ما يثير اهتمامي هو هل وجد الباحثون بقايا من الزّفت على الأدوات الحجريّة في الموقع، تتلاءَم من النّاحية الكيميائيّة مع الزّفت المستخرج من اللّوتس الراتنجيّ"، هذا ما قاله عالم الآثار الهولنديّ أندرو سورنسن (Sorensen) ضمن مقابلة مع موقع Science News. "أعتقد أنّه من شأن مثل هذا المُعطى أن يساهم كثيرًا في إقناع المتشكّكين".

من الواضح أنّ النياندرتال استخدم هذا المبنى لصنع شيء ما، حتى إن لم نستطع الإقرار بشكل مؤكّد أنّ ما صنعه هو الزفت - فقد يكون عطرًا، أو مرهمًا طبّيًّا، أو أي شيء آخر. يشير ذلك إلى التّخطيط المسبق وتنفيذ تتابع معقّد من العمليّات، ومعرفة النّباتات في البيئة المحيطة وإدراك ما قد يُنتَج منها. تعود الدراسة لترينا أنّ أقرباءنا من النياندرتال لم يكونوا حمقى بتاتًا، وكان بوسعهم التعلّم وتطوير أساليب إنتاج محكمة.

 

0 تعليقات