تُسبِّب الموادّ الكيميائيّة عالية الثّبات أضرارًا بيئيّة بالغة. دراسة جديدة تفتح الباب أمام إمكانيّة التّخلّص من هذه الموادّ ليصبح عالمنا أكثر نقاءً

تخيّلوا موادًّا مقاومة تقريبًا لكلّ شيء: مقاومة للمياه والحرارة الشّديدة والزّيوت وما إلى ذلك من الظّروف الحادّة. تلك هي الموادّ المسمّاة باختصار PFAS، وهي مجموعة من المركّبات المُصَنّعة المكوّنة من سلاسل كربونيّة مربوطة إليها ذرّات من الفلور، والّتي طُوِّرت في أواسط القرن العشرين للاستخدامات الصّناعيّة واليوميّة. من ضمن المُنتَجات الّتي تُستخدم فيها مثل هذه الموادّ مقلاة التّيفال المقاومة للالتصاق، والملابس الطّاردة للماء ورغوة فعّالة جدًا لإخماد الحرائق. 

تُخلِّف هذه الموادّ، إلى جانب حسناتها، مشاكل بيئيّة وصحّيّة بالغة، فهي تكاد لا تتحلّل في الطّبيعة، وتتراكم في مياه الشُّرب وفي التّربة وحتّى في أجسامنا، وقد كشفت دراسات معيّنة عن العلاقة بين مشاكل صِحّيّة خطيرة مثل السّرطان، والإضرار بالجهاز المناعيّ والآثار السّلبيّة على الأنظمة الهرمونيّة وبين هذه الموادّ. ذلك ما جعلها تُنعت بلقب الموادّ الكيميائيّة الأبديّة

مع مرور الزّمن، تزايدَ وتعمّقَ الفهم بأنّ التّلوّث النّاجم عن PFAS يتطلّب حلّاً عاجلاً، إلّا أنّه لم تتوفّر أيّ طريقة فعّالة لإبادة هذه المُركِّبات، الأمر الّذي جعل من مكافحتها تحدّيًّا عالميًّا. قد تُغيّر دراسة جديدة من هذه الصّورة. طوّر فريقٌ من الباحثين الصّينيّين طريقة جديدة لتحليل الموادّ الكيميائيّة بواسطة الدّمج بين الضّوء والعامل المحفّز- ألكاتاليز أتور، وهو عبارة عن مادّة تُمكِّن حدوث العمليّة الكيميائيّة وتُعجّل من وتيرتها دون أن يحصل عليها تغيير بحدّ ذاتها. 

استخدم الباحثون، وفقًا لما ورد في الدّراسة الّتي نُشرت في مجلّة Nature، عاملًا محفِّزًا يتمّ تفعيله بالأشعة فوق البنفسجيّة، من خلال العمليّة المسمّاة بـ التّحفيز الضّوئيّ. تؤدّي الأشعة إلى حدوث تفاعلات في العامل المحفّز من شأنها أن تفكّك الرّوابط الكيميائيّة المتينة، مثل الرّوابط بين ذرّات الكربون وبين ذرّات الفلور، والمعتبرة من أقوى الأربطة في الطّبيعة، وذلك في درجات حرارة منخفضة وظروف معتدلة نسبيًّا. 


من ضمن المنتجات الّتي تُستخدم فيها هذه الموادّ مقلاة التّيفال المقاومة للالتصاق، والملابس الطّاردة للماء ورغوة فعّالة جدًّا لإخماد الحرائق وغيرها، إلّا أنّها تُخلّف مشاكل بيئيّة وصحّيّة كبيرة. رسم توضيحيّ لموادّ الـ PFAS، والمُنتَجات الّتي تحتوي عليها، وَنواتج تحلّلها: الكربون والفلور

مستقبل ورديّ؟

ركّز الباحثون على التّيفال، أو التّيفلون (PTFE)، المادّة الفلوريّة رائجة الاستخدام في المِقليات وغيرها من أواني المطبخ. عرّض الباحثون مادّة التّفلون لِعاملٍ محفّز متطوّر تمّ تفعيله بواسطة ضوء مكشوف، فتحلّل التّيفلون في درجات حرارة 50- 60 سيلزيوس فقط- مقابل درجات 500 سيلزيوس أو أكثر بالطّرق التّقليديّة. تحلّل التّفلون في هذه العمليّة إلى موادّ أبسط منه مثل الكربون الأمورفيّ (غير المتبلور والشّبيه بالفحم) والأملاح الفلوريديّة غير الضارّة. استخدم الباحثون تكنولوجيا متطوّرة مثل التّحليل الطّيْفيّ (السّبكتروسكوبيا) النّوويّ وتصوير الرّونتجن. تابع الباحثون عمليّة التّحلّل عن طريق تشخيص الموادّ الأوّليّة  -هي الموادّ المتفاعلة- أوّلًا، ثمّ الموادّ النّاتجة من التّفاعل، ثمّ تابعوا التّغيّرات الحاصلة على كلّ مادّة منها.

فاقت النّتائج التّوقّعات، إذ تمّ تحرير حوالي 96 بالمائة من الفلور الّذي تواجد في التّفلون بشكلٍ آمنٍ، وتفكّكت الموادّ الكيميائيّة الخطيرة بالكامل. إنّ لهذه النّتيجة أثرًا كبيرًا، إذ تضمن هذه الطّريقة حلًّا أخضرًا وأكثر فعاليّة لمشكلة بيئيّة اعتُبِرت عصيّة الحلّ حتّى اليوم. قد تُستخدَم هذه الطّريقة مستقبلًا في تنقية مياه الشّرب، وتطهير الأراضي الزّراعيّة الملوّثة، وتقليص تعرّض الإنسان للموادّ الكيميائيّة الخطِرة.  

على الرّغم من أنّ هذه التّكنولوجيا ما زالت في مراحل تجريبيّة أوّليّة، إلّا أنّ ما يكمن فيها من إمكانات لا يخفى على أحد، فهي تَعِد بعالَم أنقى وأصحّ، إلى جانب لتّقدّمها العلميّ. قد يصبح بمقدورنا التّعامل مع جزء من أكبر التّحدّيات البيئيّة في عصرنا هذا، وإنشاء مستقبل خالٍ من الموادّ الكيميائيّة الضارّة.

 

0 تعليقات