تعاني أنظمة التّعرّف في السّيّارات ذاتيّة القيادة أحيانًا من صعوبة في اكتشاف سيّارات الطّوارئ المتوقّفة على جانب الطّريق عند تشغيل أضوائِها التّحذيريّة السّاطعة، ممّا قد يؤدّي إلى مخاطر على الطّريق. فكيف يسعى الباحثون لحلّ هذه المشكلة من خلال التّطوّرات التّكنولوجيّة؟
تشهد السّنوات الأخيرة تحوّلًا جذريًّا في ثقافة القيادة، بفضل التّطوّرات التّكنولوجيّة في مجالَي المكوّنات المادّيّة والبرمجيّات، وخصوصًا مع ظهور السّيارات ذاتيّة القيادة. المكوّن الأساسيّ في هذه المركبات هو الحاسوب، الّذي يعمل ببرمجيّات تعتمد على الذّكاء الاصطناعيّ، حيث يؤدّي هذا النّظام دورًا مشابِهًا للعقل البشريّ التّحليليّ، إذ يتّخذ القرارات بناءً على البيانات الّتي يحصل عليها من أجهزة الاستشعار المختلفة، مثل الكاميرات، والليدار (Lidar) والرادار.
كما أنّ السّائق البشريّ معرّض لارتكاب الأخطاء، فإنّ "السّائق الاصطناعيّ" – أي برنامج الذّكاء الاصطناعيّ – ليس معصومًا منها، وإن كان يُخطِئ بطريقة مختلفة تمامًا عن البشر. فبينما تنتج بعض الحوادث البشريّة عن عوامل مثل التّعب أو قلّة التّركيز، فإنّ أخطاء الذّكاء الاصطناعيّ ترجع غالبًا إلى مشاكل برمجيّة، مثل التّحليل غير الصّحيح للبيانات المستقبلة من المستشعرات.

على برمجيّات الذّكاء الاصطناعيّ اتّخاذ قرارات بناءً على المدخلات الّتي تتلقاها من أجهزة الاستشعار، مثل الكاميرات، الليدار والرادار." السّيّارات الكهربائيّة التّابعة لشركة تسلا | Jonathan Weiss, Shutterstock
حتّى الحواسيب قد تُخطِئ
تعتمد السّيّارات ذاتيّة القيادة بشكل أساسيّ على تحليل الصّور والبيانات البصريّة، ممّا يتطلّب منها القدرة على التّمييز بين العناصر المختلفة في محيطها، مثل الطّريق، المسارات، إشارات المرور والمركبات الأخرى. هذه القدرة ضروريّة للغاية، فتخيّلوا العواقب إذا لم يتمكّن حاسوب السّيّارة من التّعرّف على مركبة متوقّفة في مسارها!
النّموذج البرمجيّ المسؤول عن التّعرّف على الأشياء معقّد للغاية، لكنّه في جوهره يعتمد على خوارزميّات تمّ تدريبها على مجموعات بيانات ضخمة. يتمّ تدريب هذه النّماذج باستخدام آلاف الصّور لأشياء مختلفة، مثل السّيّارات، الدّرّاجات النّاريّة والشاحنات، بحيث يتعلّم النّظام كيفيّة تصنيف كلّ كائن. ثمّ يولّد النّموذج مخرجات على شكل صور، حيث تُوضع مربّعات حول الكائنات المكتشفة، مع قيمة عدديّة بين 0 وَ1، تعبّر عن مدى يقين التّعرّف على الكائن. على سبيل المثال، يُحدّد مستوى الثقة (Confidence Threshold) إلى 0.7، بحيث تُعتَبر أيّ قيمة أعلى منها على أنّها تعريف مؤكّد للكائن.
لكن هذا الإجراء ليس بسيطًا كما يبدو، إذ تتأثّر دقّة التّعرّف بعوامل عديدة مثل تنوّع أشكال المركبات، ظروف الإضاءة المختلفة وحالة الطقس، ممّا يزيد من تعقيد عمليّات التّصنيف. وهذا هو السّبب في أنّ مطوّري أنظمة القيادة الذّاتيّة يواجهون تحدّيات كبيرة، عند التّعامل مع حالات غير اعتياديّة على الطّرق، ومن أبرزها مشكلة رصد سيّارات الطّوارئ المتوقّفة.

وميض الضّوء التّحذيريّ يُقلّل بشكل كبير من مستوى يقين النّموذج في التّعرّف على المركبة."سيّارة شرطة بأضواء تحذيريّة وامِضة | Kreative Baacha, Shutterstock
ما الّذي يعيق من عمل النموذج؟
أظهرت بعض الدّراسات أنّ سيارات شركة تسلا، على وجه الخصوص، تواجه صعوبة في التّعرّف على مركبات الطّوارئ المتوقّفة مع تشغيل أضوائِها التّحذيريّة اللّامعة، خاصّة في الظّلام. وقد سُجِّل 16 حادث تصادم على الأقل بين سيارات تسلا ومركبات طوارئ متوقّفة. وفي تحقيق أجرته وزارة النّقل الأمريكيّة، أُلقي اللّوم في المقام الأوّل على السّائقين، متهمّين إيّاهم بعدم الانتباه الكافي أثناء القيادة.
لمعالجة هذه المشكلة، أجرى باحثون من جامعة بن غوريون، بالتّعاون مع شركة فوجيتسو (Fujitsu) اليابانيّة، دراسة بحثيّة تهدف إلى فهم الأسباب التّقنيّة الكامنة وراء هذا الخلل وإيجاد حلّ له. أطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم EpileptiCar، وهو مزيج من كلمتي Epilepsy (الصّرع) وCar (سيارة)، في إشارة إلى تأثير وميض الأضواء التّحذيريّة على أنظمة التّعرّف الحاسوبيّة.
استخدم الباحثون في هذه الدّراسة كاميرات مختلفة ونماذج متعدّدة للتّعرّف على الأجسام، ثمّ صوّروا مقطع فيديو لمركبة متوقّفة، حيث سجّلت لمدّة 30 ثانية بدون أضواء تحذيريّة، ثمّ لمدّة 30 ثانية أخرى مع تشغيل الأضواء التّحذيريّة. ثمّ تمّ تقسيم الفيديو إلى لقطات فرديّة (Frames)، وإدخالها إلى نظام التّعرّف لتقييم مدى يقينه في تحديد المركبة.

درجة موثوقيّة التّعرّف على المركبة بناءً على كلّ إطار من الفيديو. الخطّ الأحمر يشير إلى الفترات الّتي يكون فيها الضّوء التّحذيريّ مطفأً، بينما يشير الخطّ الأزرق إلى الفترات الّتي يكون فيها الضّوء التّحذيريّ مُضاءً. المصدر Feldman et al .
تظهر البيانات أعلاه أنّ تشغيل الأضواء التّحذيريّة تُسبّب في تقلّبات كبيرة في مستوى يقين النّموذج بالتّعرّف على المركبة، ممّا يشير إلى أنّ وميض الضّوء أدّى إلى اضطراب النّظام. وبعد مزيد من التّحليل، اكتشف الباحثون أنّ تردّد الوميض بلغ 1.3 هرتز (1.3 دورة في الثانية)، وهو نفس التّردّد الّذي حدثت عنده تقلّبات واضحة في أداء النّظام.
لكن لماذا تؤثّر الأضواء التّحذيريّة بهذا الشّكل؟ يعتمد نظام التّعرّف على تحليل البكسلات المكوّنة للصّورة، حيث يحتوي كلّ بكسل على ثلاث قيم رقميّة تعبّر عن شدّة اللّون الأحمر، الأخضر والأزرق (RGB). ووجد الباحثون أنّ المشكلة تكمن في توزيع اللّون الأزرق في الصّور، وخصوصًا في منطقة السّيارة المتوقّفة، حيث يؤدّي وميض الضّوء إلى تغييرات غير متوقّعة في بيانات الإدخال الخاصّة بالنّموذج، ممّا يؤثّر على دقّة التّعرّف.
بعد تشخيص المشكلة، شرع الباحثون في تطوير حلّ أطلقوا عليه اسم Caracetamol، في إشارة إلى دواء Paracetamol المستخدم لتخفيف الألم، تعبيرًا عن هدفهم في "تهدئة" تأثير الأضواء التّحذيريّة على نظام التّعرّف. اعتمد هذا الحلّ على إضافة طبقات جديدة إلى النّظام، بحيث تُحفَص كلّ صورة فور استقبالها لتحديد ما إذا كانت تحتوي على أضواء تحذيريّة. فإذا لم يُرصد أيّ وميض، تُرسل الصّورة مباشرة إلى النّموذج الأساسيّ للتّعرّف. أمّا إذا اكتُشِف وميض، فتمرّر الصورة إلى نموذج إضافيّ مخصّص للتّعرّف على المركّبات ذات الأضواء التّحذيريّة، ثم تُدمج نتائج النّموذجين للحصول على نتيجة أكثر دقّة وثباتًا.
أثبت هذا الحلّ فعاليّته في تحسين استقرار النّظام مقارنةً بالنّموذج الأصليّ، حيث زادت أدنى قيمة يقين بنسبة 0.21، وارتفع متوسّط اليقين بمقدار 0.27، كما تحسّن الحدّ الأقصى لليقين بمقدار 0.07. بالإضافة إلى ذلك، انخفض نطاق التّذبذب في القيم بمقدار 0.19، ممّا يعكس تحسّنًا كبيرًا في استقرار التّعرّف.
ما التّالي؟
تجدر الإشارة إلى أنّ الباحثين لم يستخدموا كاميرات أو أنظمة ذكاء اصطناعيّ خاصّة في سيارات تسلا، بل اعتمدوا على كاميرات تجاريّة عاديّة ونماذج مفتوحة المصدر. كما واجهوا صعوبة في العثور على مجموعات من البيانات تحتوي على صور لمركبات بأضواء تحذيريّة في الظّلام، وهو ما يبرز الحاجة إلى المزيد من البيانات لتحسين دقّة وموثوقيّة النّماذج.
مع استمرار تطوّر أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ، سيزداد دورها في حياتنا اليوميّة، لكن لا تزال هناك تساؤلات حول مدى أمانها وأخلاقيّاتها. وبينما تواصل الأبحاث تحسين تقنيات السّيّارات ذاتية القيادة، تبقى الحاجة قائمة إلى دراسات مستمرّة لضمان سلامتها وتقليل المخاطر المرتبطة فيها.