العودة من البيت إلى البرّ - لا تقدر جميع أصناف الحيوانات المُدجّنة على البقاء على قيد الحياة إذا عادت لِتعيش في البرّية، ويستطيع البعض منها فقط التّكّيف من جديد. كشفت دراسة جديدة كيف نجح الأرنب الأوروبيّ في العيش في البرّيّة، وما هي الخصائص المورثيّة (الجينيّة) الّتي ساهمت في ذلك
لقد دجّنَ الإنسان أصنافًا متنوعة من الحيوان والنبات لاحتياجاته. ساهم التدجين في قضاء احتياجات الإنسان المختلفة، من توفير المصادر الغذائية، وتنمية العديد من أصناف الثمار، وتوفير صديق في الرحلات، مثل كلب الهاسكي. لكن، تعود بعض الأصناف من الحيوانات المدجنة، بطريقة أو بأخرى، لتعيش في الطّبيعة. كيف تستطيع هذه الأصناف البقاء على قيد الحياة، وهل تختلف عن أقربائها الّذين لم يعهدوا التّدجين بتاتًا؟ حاولت دراسة جديدة الإجابة عن هذه الأسئلة عن طريق فحص الأرنب الأوروبيّ (Oryctolagus cuniculus) - أحد أكثر الأنواع شهرةً ونجاحًا في عمليّة التّحوّل إلى البرّيّة.
رحلة رائعة إلى المنزل
يتطرّق مصطلح "العودة إلى البرّيّة" إلى الحيوانات والنباتات المدجّنة، الّتي تعود لتعيش في الطّبيعة كَحيوانات ونباتات برّيّة. اعتُمِد هذا المصطلح في الآونة الأخيرة لوصف نظم بيئيّة كاملة تعود إلى حالتها الطّبيعيّة، قبل أن تمسّها يدُ الإنسان. عادةً ما يُنظر إلى عودة مساحات من الطّبيعة إلى حالتها الطّبيعيّة بأنّها عمليّة إيجابيّة، تحافظ على الازدهار والتّوازن والتنوّع المورثيّ (الجينيّ)، لكن عند الحديث عن أصناف مدجّنة استطاعت البقاء على قيد الحياة في البرّيّة، فليس هذا هو الحال دائمًا.
تمرّ الأصناف المدجّنة بانتقاء مصطنع وفقًا لرغبات الإنسان، ولم تعد تنصاع لضغوط الانتقاء الطّبيعيّ اللّازمة لبقائها على قيد الحياة. ليست الأصناف المدجّنة هي الأقوى بالضّرورة، أو تلك القادرة على التّناسل، وإنّما هي تلك الّتي تمت ملاءمتها للبيئة الآمنة والمراقَبة الّتي أنشئت لأجلها. لذا، فإنّها لن تستطيع حتمًا البقاء على قيد الحياة، فيما إذا عادت لتعيش في بيئتها الطّبيعيّة البرّيّة.
نجحت، مع ذلك، أصناف مدجّنة معيّنة في التّرعرع في الطّبيعة بعد أن عادت إليها. مثلًا كلاب الدينغو في أستراليا، والخيل الّتي عادت للطّبيعة - والأرانب. فحص باحثون من البرتغال الأرانب الأوروبيّة الّتي مصدرها شبه الجزيرة الإيبيريّة وفرنسا، وهي، كما ذكر آنفًا، مثال لصنفٍ قد نجح نجاحًا باهرًا في العودة إلى البرّيّة. نجد هذا الصّنف من الأرانب اليوم يعيش ويتكاثر في جميع أنحاء العالم - ما عدا في أنتاركتيكا (القارة القطبّيّة الجنوبيّة) - كما وتقطن الأرانب من هذا الصّنف في 800 جزيرة، وتُعدّ صنفًا غازيًا يهدّد المنظومات البيئيّة المحلّيّة في بعض المناطق.

كلب الدينغو في أستراليا هو من أصناف الحيوانات المدجّنة الّتي عادت لتعيش في الطّبيعة وترعرعت فيها | Arun Sankaragal, Shutterstock
سرُّ النّجاح
انتشر الأرنب الأوروبيّ في أنحاء العالم، وتطوّرت منه سلالات مختلفة منذ أن دُجِّن في فرنسا قبل ما يقارب 1500 سنة، الأمر الّذي أتاح للباحثين فحص مورثاته (جيناته) ومورِثات نَسله. حاول العديد من الباحثين فهم آليّة تدجين الأرانب، وفحصوا فيما إذا وجدت فيها علامات مورثيّة (جينيّة) تميّزها. يؤثّر التّدجين، وفقًا لِلافتراض الشّائع، على المورثات، وتتحدّد بعض السِّمات، حسب الافتراض ذاته، من خلال التّغيّرات في تواتر الجينات الّتي تمثّل هذه السّمات بين أفراد المجموعة.
لكلّ مورثة في الكائنات ثنائيّة الصّبغيّات - الّتي لها نسختان من المادّة الوراثيّة - شكلان مختلفان محتملان تُسمّى أليلات (أو حليلات، أو بديلات)، يُكتسب كلّ أليل منها من أحد الوالديْن. تُغيّر عمليّة التّدجين نسبة انتشار الأليلات في أماكن كثيرة في مورثات الجينوم (كامل المادّة الوراثيّة)، إلّا أنّها لا تُخفي الأليلات الأصليّة لمجموعة الحيوانات البرّيّة إخفاءً تامًّا. يجب أن يُثبّتَ الأليل ويُخفي ما سبقه، كي تتغيّر صفة ما بشكل دائم. يعني تثبيت النوكليوتيد (لبنة بناء المورثات والمادّة الوراثيّة) لدى الأفراد في المجموعة أن يتواجد أحد الأليلات، الأليل A مثلًا، في جميع الأرانب البرّيّة، وأليل آخر، مثلًا الأليل G، في جميع الأرانب المدجّنة، وأن يكون هناك، فيما تبقى من الأماكن، تباين في التّردّد - مثلًا أن يظهر الأليل A الموجود في مكان لم يُثَبّت في 80 بالمائة من الحالات لدى الأرانب البرّيّة، بينما يظهر في 20 بالمائة من الحالات لدى الأرانب المدجّنة. إذا تزاوج أرنب مُدجّن حامل الأليل البرّيّ الأقلّ رواجًا مع أرنبة لها نفس الأليل (A)، يزيد عندها الاحتمال بأن يحصل وليدهما على هذا الأليل من والديْه الحامليْن له.
تزداد نسبة انتشار الأليل البرّيّ عبر الأجيال، في حال وهبت الظّروف البيئيّة الحياتيّة في الطّبيعة البرّيّة أفضليّة لِبقاء الذّرّيّة الّتي تحمل هذا الأليل على قيد الحياة، وتكاثرت هذه الذّرّيّة وأنجبت نَسْلًا آخر. يحتمل عندها أن تعود الخواصّ البرّيّة، وتظهر من جديد وبسرعة خلال بضعة أجيال، حتّى وإن كانت هذه في البداية خواصًا نادرة نسبيًّا لدى الأرانب المدجّنة. توضّح هذه العمليّة كيف يمكن أن يتيح التّباين الوراثيّ المتبقّي التّكيّف السّريع للبيئة الطّبيعيّة.

تعود الخواصّ البرّيّة وتظهر سريعًا من جديد، خلال بضعة أجيال، حتّى وإن كانت هذه في البداية خواصًا نادرة نسبيًّا لدى الأرانب المدجّنة. في الصّورة أرانب مدجّنة عادت إلى البرّيّة | Y.S graphic, Shutterstock
نسي الأرنب الصّغير إغلاق الباب
أراد الباحثون أيضًا أن يفهموا: هل تتجلّى العودة النّاجحة للطّبيعة بعد التّدجين حقًّا في ازدياد رواج الأليلات الّتي احتُفظ بها فيها.
لذلك قارن الباحثون، بين تسلسلات الجينوم لدى 297 أرنبًا، تشمل ستّة مجموعات من الأرانب الّتي عادت إلى الطّبيعة في القرنيْن الماضيّين في قارات مختلفة، وأرانب مدجّنة، وأرانب برّيّة من المجموعات الأصليّة. وجد الباحثون أنّ هناك دمج بين المورثات المدجّنة ومورثات الأرانب البرّيّة في جينوم الأرانب المدجّنة الّتي عادت إلى البرّيّة. وُجد، بالإضافة إلى ذلك، أنّ التباين المورثيّ لدى المجموعات الّتي عادت إلى البرّيّة بعد التّدجين، أقلّ منه لدى الأرانب البرّيّة، وهذه نتيجة متوقّعة حيث أنّ هذه المجموعات ناتجة عن انتقاء اصطناعيّ هيّأه الإنسان.
تتراوح نسبة رواج الأليلات المدجّنة، وفقًا لما تبيّن من اكتشاف آخر، بين 50 وَ 80 بالمائة، وربّما يكون هذا تقدير أقلّ من الواقع نظرًا لعمليّات الانتقاء الطبيعيّ، الّتي لم تُؤخَذ في الحسبان خلال عمليّة الفحص، بسبب القيود الّتي فرضتها الطّريقة. فحص الباحثون، بهدف التّعمّق في هذه النّقطة، ما هو الاحتمال بأن يعود أحد الأليلات المدجّنة ليتحوّل إلى وضعيّة أليل برّيّ، وقارنوا ذلك مع التّغيّرات الّتي تحدث في مناطق أخرى في الجينوم، والتي لم يحدث عليها أيّ تغيير. يفوق مَيْل الأليلات المدجّنة لتتحوّل إلى أليلات برّّية، حسب ما وجد الباحثون، خمسة أضعاف ميل المورثات الأُخرى! واكتشفوا أيضًا أنّ التّغيّر يحدث باتّجاهيْن: يمكن أن تعود الأليلات الّتي تتغيّر خلال عمليّة التّدجين لتتحوّل إلى أليلات برّيّة. بما أنّ الفحص أُجريَ على مجموعة واحدة فقط، من المحتمل أنّ هذه ميزة فريدة خاصّة بالأماكن الّتي تمرّ بعمليّة انتقاء كبيرة.
حدّد الباحثون مواقع 71 منطقة في الجينوم لها صلة بالتّحوّل من أليلات مدجّنة إلى أليلات برّيّة، وفيها حوالي 171 من المورثات. قسم من هذه المورثات مسؤول عن مبنى وشكل الشّبكيّة، وعن القدرة على التّعلّم، وعن الخلل في أداء النّخاع العظميّ وفقر الدم، ومورثات أخرى مسؤولة عن آليّات هامّة في الدّماغ ونشاط الخلايا العصبيّة، وارتبطت مورثات أُخرى بالجهاز المناعيّ.
أراد الباحثون أيضًا أن يفحصوا كم هو عدد الأليلات - الّتي خضعت لعمليّة الانتقاء عن طريق الإنسان في عمليّة التدجين - التي اُحتُفِظَ بها في مرحلة العودة إلى البرّيّة. فحص الباحثون عشر خصائص موجودة لدى جزء كبير من سلالات الأرانب الأوروبيّة، منها ما له صلة بصبغة الفروة وطولها، ولون الدّهون وغيرها. لم تتواجد خمسة من هذه الصّفات عند المجموعات العائدة إلى البرّيّة بعد تدجينها، بينما وجدت خمس الصّفات الأخرى بتواتر منخفض أو متوسّط لدى المجموعات ذاتها. يعود السّبب في ذلك، على ما يبدو، إلى أنّ خصائص مختلفة كانت ضروريّة في البيئة المدجّنة أصبحت عديمة الفائدة، أو حتّى ضارّة في البيئة البرّيّة، ومن المحتمل أنّه احتُفِظ بالخصائص الأخرى لأنّها حياديّة ،أو لأنّ لها فائدة في البيئة الجديدة.
تتعلّق عودة مجموعة حيوانات مدجّنة إلى الطّبيعة البرّيّة، وفقًا لما استنتجه الباحثون بالاعتماد على النّتائج، بالأفراد الّذين يملكون أعلى قدرة مورثيّة (جينيّة) على البقاء على قيد الحياة، أي الأفراد الّذين يملكون أليلات شبيهة بأليلات أجدادهم الأصليّين. تزيد فرصة نجاح الأرانب في الحياة البرّية إذا ازدادت لديها نسبة الأليلات البرية. صحيح أنّه ليس كلّ أرنب أوروبيّ يُعاد إلى الطّبيعة البرّيّة سيبقى على قيد الحياة، إلّا أنّه إذا وُجد عدد من الأرانب التي تملك الأليلات "الصّحيحة"، فإنّها سوف تندمج في الطّبيعة، لأنّ ضغوط الانتقاء ستقلّل من رواج أماكن المورثات ذات المظهر المدجن من الأليل - خاصّةً إذا تواجدت هذه الأرانب بصحبة مجموعة من الأرانب البرّيّة الّتي يُمكِن أن تتزاوج معها وتتناسل.

تزيد فرصة نجاح الأرانب في الحياة البرّيّة إذا ازدادت لديها نسبة الأليلات البرّيّة. في الصورة: أرنب أوروبيّ | Momyro, Shutterstock
البيت هو الأفضل
تحدث عمليّة العودة من التّدجين إلى الطّبيعة البرّيّة، على الرّغم من عدم سهولتها، لدى العديد من الأنواع. مع ذلك، ليست كلّ عودةٍ من التّدجين إلى الطّبيعة البرّيّة هي إيجابيّة بالضّرورة، خاصّةً لدى الأنواع المدجّنة الّتي تنجح بالتّكاثر مع المجموعات البرّيّة، على الرّغم من أنّ العودة مجدية لبقائها على قيد الحياة. تدلّ بعض الحالات من العالم ومن بلادنا أيضًا، على أنّ حيوانات برّيّة فقدت هويّتها المورثيّة (الجينيّة) نتيجة اختلاطها مع سلالة مدجّنة. يمكننا أن نجد ذلك لدى القطط البرّيّة، فهناك من يعتقدون أنّ التّهجينات الّتي حصلت بينها وبين القطط المدجّنة البيتيّة في بلادنا، مثلًا أدّت إلى تكوّن تهديد على وجودها. ما قد ينجم عن الاختلاط بين المجموعات في مثل هذه الحالة، هو انخفاض في نسبة انتشار أليلات القطط البرّيّة لدرجة اختفاء مظهرها الفريد، ولا يبقى منها إلّا القليل لدى القطط المنزليّة. أمّا الوضع في سكوتلندا فهو أشدّ خطورةً، وهناك من يقول إنّه لم يعد بالإمكان التّمييز بين القطط البيتيّة المدجّنة والقطط البرّيّة. إذا كان الأمر كذلك، علينا أن ندرك أنّ المكان المناسب لمعيشة بعض الحيوانات هو الطّبيعة البرّيّة، بينما يبقى البعض الآخر يعيش في البيوت.