طوّر باحثون مصابيح ثنائيّة باعثة للضّوء (LED) جديدة قد تزيد من جودة شاشات التّلفاز، واكتشفوا خلال ذلك ظاهرة كموميّة غير متوقّعة !
لا يزال التّلفاز ينبض بالحياة حتّى بعد مرور عقود من الزّمن على ظهوره، إذ يجذب إليه المليارات من بني البشر في جميع أنحاء العالم، يستقون منه الأخبار ويتعاطون مجريات الأحداث، ويلقَوْن فيه التّرفيه والواقع، ويهربون بواسطته من الواقع. حلّت الشّاشات الدّقيقة ذات جودة العرض الفائقة مكان الصّناديق الكبيرة الّتي كانت تحتلّ مكانًا كبيرًا على البوفيه. ما زال الباحثون، على الرّغم من أننا قد نتخيَّلُ أنّ التّقنيّات الحاليّة بلغت ذروتها، دائبين على تطوير المزيد من التّحديثات الّتي قد تجد طريقها الى غرف معيشتنا.
نُشرت مؤخّرًا مقالة في مجلّة Nature Communications تناولت تقنيّة مثيرة للاهتمام من النّاحية التّكنولوجية ومن منظار العلوم الأساسيّة، فيزياء الكمّ بشكل خاصّ. أشار طاقم الباحثين في مجال الكيمياء والهندسة، من جامعات في كوريا وميشيغان، إلى نوع جديد من المصابيح الثّنائيّة باعثة الضّوء (LED) الّتي تعتمد على مادّة عضويّة. تتيح هذه التّكنولوجيا، حسب قولهم، الحصول على ألوان أكثر حِدّةً، وتبديل الفلزّات الثّقيلة المستخدمة في التّقنيّات الحاليّة بمادّة هجينة خفيفة نسبيًّا.
دعونا أوّلًا نعُودْ للأسس. ظاهرتا اللّصف الاستشعاعيّ (الفَلْوريّة - Fluorescence)، والفُسفوريّة - Phosphorescence هما ظاهرتان منفصلتان، ولكن يوجد وجه شبه بينهما. كلاهما جزء من ظاهرة التّلألؤ أو اللّمعان (Luminescence) الّتي تصف انبعاث الضّوء من المادّة دون علاقة بدرجة حرارتها - هناك من يسمُونها الضّوء البارد. قد ينجم التّلألُؤ عن عدّة عوامل، منها القوى الكهربائيّة والمغناطيسيّة المستحثّة، والعمليّات الكيميائيّة وحركة الذّرّات.

تطول مدّة انبعاث الأشعّة في ظاهرة اللصف الاستشعاعيّ (الفَلْوريّة - Fluorescence) نانو ثواني. مجموعة مختارة من المعادن الّتي ينبعث منها الضّوء من خلال عمليّة الفلوريّة ا على أثر تعرّضها للأشعّة فوق البنفسجيّة | Hannes Grobe/AWI, Wikimedia
نقاط من الضّوء
تصف ظاهرتا اللصف الاستشعاعيّ والفسفوريّة انبعاث الضّوء تلقائيًّا من جزيئات المادّة، نتيجة لانخفاض طاقتها، وذلك في أعقاب حصولها على حصّة من الطّاقة من مصدر ضوء خارجيّ. تطول مدّة انبعاث الأشعّة في ظاهرة اللصف الاستشعاعيّ نانو ثواني (جزء من المليار من الثّانية)، بينما يطول انبعاث الأشعّة في ظاهرة الفسفوريّة ما بين ميلي ثواني (جزء من ألف من الثّانية) حتّى بضع ساعات.
تعتمد المصابيح الثّنائيّة الباعثة للضّوء (LED) على جريان التّيّار الكهربائيّ في المادّة شبه الموصلة باتّجاه واحد، ممّا يؤدّي إلى انبعاث ضوء له أطوال أمواج محدّدة. المادّة شبه الموصلة في المصابيح الثّنائيّة الباعثة للضّوء من نوع OLED الفسفوريّة هي مادّة عضويّة، لكن تُستخدم فيها الفلزّات الثّقيلة أيضًا.
ترتبط المادّة العضويّة في المصابيح الثّنائيّة الباعثة للضّوء من نوع OLED بروابط كيميائيّة ضعيفة مع فلزّات مثل الإيريديوم أو البلاتين، الّتي تزيد من متانة المصباح. الفلزّات ضروريّة، أيضًا، من النّاحية التّطبيقيّة: تتجدّد البِكْسلات (عناصر الصّورة) - النّقاط الضّوئيّة الّتي تتكوّن منها الصّورة - بوتيرة 120 إطارًا في الثّانية الواحدة، بينما وتيرة فسفوريّة المادّة العضويّة هي أبطأ من ذلك، ما قد يؤدّي إلى تكوّن صورة شبحيّة - نتيجة عدم التّوافق بين الوتيرتين. تعمل الفلزّات، الّتي تُشكّل جزءًا لا يتجزّأ من هذه المصابيح، على تعجيل وتيرة الفسفوريّة بحيث يحدث الانبعاث خلال ميكرو ثواني (جزء من مليون من الثّانية) بدلًا من ميلي ثواني.
ليست الفلزّات الثّقيلة مثاليّة، فهي غالية الثّمن نسبيًّا، وهي ضارّة بالبيئة، كما أنّ فترة حياة عملها قصيرة. تَعرض الدّراسة الجديدة بديلًا فعّالًا لهذه الفلزّات دون التّخلّي عن ميزاتها الأساسيّة. تتكوّن المادّة الجديدة، بالمستوى الجسيميّ، من صفيحة ثنائيّة الأبعاد من عناصر الموليبدينوم والفوسفور بالقرب من صفيحة المادّة العضويّة الباعثة للضّوء.
يتيح هذا التّركيب الهجين تحقيق التّأثير الّذي عادة ما ينتج عن طريق الفلزّات المرتبطة بالمادّة العضويّة، وذلك من خلال قُرب المادّة العضويّة من الصّفيحة والّذي يؤدّي الى تعجيل الفسفوريّة ألف مرّة. يتيح فقدان الارتباط الكيميائيّ بين المادّة العضويّة وبين الفلزّ إطالة عمر المادّة العضويّة وإنتاج عرض عالي الدّقّة، تمامًا كما هو الحال في الطّرق الحاليّة.
كي يكتمل التّطوير الّذي عرضوه، على الباحثين إيجاد حلّ لمشكلة احتراق البكسلات الّذي يحدث عند انطلاق ضوءٍ أزرق عالي الطّاقة من المصباح. تَسخن البكسلات موضعيًّا نتيجة لذلك ما قد يعجّل من تلفها. تتجاوز الطّرق الجديدة هذه المشكلة، حيث تُستخدم البكسلات الخضراء والحمراء الّتي تعتمد على الفسفوريّة في شاشات OLED، بينما يُستخدم اللصف الاستشعاعيّ (الفلوريّة) في البكسلات الزّرقاء، وهو أقلّ نجاعة من حيث استغلال الطّاقة، إلّا أنّه يمنع الاحترار الزّائد.
تعتمد على جريان التّيّار الكهربائيّ في المادّة شبه الموصلة باتّجاه واحد، ما يؤدّي إلى انبعاث ضوء بأطوال أمواج محدّدة. المصابيح الثّنائيّة الباعثة للضّوء (LED) الخضراء والحمراء | Science Photo Library
وهناك اللَّفّ المِغزليّ (السبين) أيضًا
اِكتشف الباحثون، خلال تطويرهم المادّة الجديدة، مفاجأة تتعلّق باللّفّ المِغزليّ (السبين) - الخاصيّة الكموميّة للجسيمات. كنّا قد حدّثناكم مؤخّرًا عن مبدأ الاستبعاد المنسوب لباولي Pauli ، الّذي يقضي بعدم إمكانيّة تواجد جسيمين متطابقين، إلكترونين مثلًا، بنفس الوضع الكموميّ. من هنا، يمكن أن تكون اتّجاهات اللّفّ المِغزليّ (السبين) لِزوج من الإلكترونات إمّا متعاكسة (حالة التّوزيع الفرديّ - singlet); أو متوازية بنفس الاتّجاه لكنّ طاقتها مختلفة (توزيع ثلاثيّ - تريبليت Triplet). قيست المادّة الهجينة الجديدة، حسب ادّعاء الباحثين، فوُجد في ظروف معيّنة: زوج من الإلكترونات طاقتهما متطابقة ولَفُّهما المغزليّ (سبين) مشترك، وهذه حالة توزيع ثلاثيّ - تريبليت - غير محتملة، لأنّها تناقض مبدأ الاستبعاد لباولي.
لم يفهم الباحثون بعد ما الّذي يجري حقًّا بالمستوى الميكروسكوبيّ (الجسيميّ) ويؤدّي إلى انتهاك مبدأ الاستبعاد الأساسيّ، إلّا أنّهم سارعوا في البدء بإجراءات تسجيل براءة اختراع، والبحث عن دفيئة تكنولوجيّة من شأنها أن تحوّل مصباح اللّد الجديد إلى منتَج يُعرض للبيع. يوجد، إذًا، تلفاز ذكيّ، إلّا أنّه لا يوجد بعد تلفاز يفهم ميكانيكا الكمّ.