يُشير فحص وراثيّ لعيّنات من مقابر العصر النيوليثيّ في الدّول الإسكندنافيّة إلى سبب محتمل لانهيار سكّانيّ غامض حدث قبل 5000 عام.

منذ حوالي 5000 سنة، أثناء العصر الحجريّ الجديد (العصر النيوليثيّ) ، حدث انهيار سكّانيّ في شمال أوروبا. تشير النّتائج الأثريّة (اِكتشافات أثريّة) من هذه الفترة إلى انخفاض حادّ في عدد الأشخاص الّذين يعيشون في المناطق الّتي كانت مأهولة بالسّكّان حتّى ذلك الحين - بالنّظر إلى الفترة والحجم المحدود للمجتمعات الرّيفيّة الّتي كانت تعيش هناك في تلك الأيّام. يواجه المؤرّخون وعلماء الآثار صعوبة في صياغة تفسير واحد متّفق عليه للسّؤال حول السّبب الّذي أدّى إلى انخفاض عدد السّكّان فجأة. وتشير أبحاث جديدة الآن إلى عدوّ مألوف وقاتل قضى على جزء كبير من سكّان أوروبا في العصور الوسطى، أي بعد آلاف السّنين، وهو بكتيريا الطّاعون، وإن كان مختلفًا بعض الشّيء.

وفي محاولة لفكّ لغز انهيار العصر الحجريّ الحديث، سعى علماء الآثار من السّويد والدّنمارك إلى البحث عن دلائل تشير إلى انتشار الأوبئة الكبرى خلال هذه الفترة. ولتحقيق هذه الغاية، قاموا بحفر تسعة مواقع دفن من العصر الحجريّ الحديث في البلدين الإسكندنافيّين واستخرجوا 174 عيّنة من 108 بقايا تمّ حفظها في حالة سمحت بإجراء اختبار وراثيّ شامل. وتضمّن الرّفات عددًا من الرّجال أكبر بقليل مقارنة بالنّساء، وذلك بسبب طبيعة الدّفن والبقايا المحفوظة.

وتمّت مقارنة المادّة الوراثيّة الّتي استخرجت من الجثث بقاعدة بيانات جينيّة ضخمة لمسبّبات الأمراض الّتي تصيب البشر. وفي 18 جثّة - واحدة من كلّ ستّ - تمّ العثور على مادّة وراثيّة من بكتيريا الطّاعون. عُثر على العيّنات المصابة في جميع مواقع الدّفن في جنوب السّويد والدّنمارك، ممّا يشير إلى انتشار الوباء جغرافيًّا. وكشف تأريخ العيّنات على أنّ المرض انتشر في عدّة موجات على مدى 120 عامًا، وأنّ الموجة الأخيرة كانت على الأرجح الأكثر شدّة وفتكًا. ومن العوامل الّتي عزّزت هذه الفرضيّة أنّ من بين ضحايا المرض في الموجة الأخيرة أشخاص من عائلات مختلفة، وهو ما قد يشير إلى أنّ المرض ضرب في وقتٍ واحد في عدّة أماكن، وكان جميع المرضى مصابين بنفس البكتيريا وماتوا في نفس الوقت تقريبًا. وعلى النّقيض من ذلك، في حالات تفشّي الأمراض الموضعيّة، نتوقّع العثور على بكتيريا مختلفة في مناطق مختلفة.


لقد قتل هذا المرض ملايين البشر عبر التاريخ، وقد يكون مرتبطًا بانهيار سكّانيّ  في شمال أوروبا منذ 5000 عام. وباء الطاعون في العصور القديمة بعيون  فنّان فرنسيّ من القرن الثامن عشر | مصدر: Library Of Congress / Science Photo Library

ليس حاسمًا تمامًا

إنّ الوباء الّذي يقتل 17% من السّكّان هو بلا شكّ حدث صعب، لكن لا يمكن اعتباره انهيارًا سكّانيًّا بعد. ومع ذلك، يشير الباحثون إلى أنّ هذا الرّقم يجب أن يُنظر إليه بيقين محدود، لأنّ النّتائج تعكس فقط أولئك الّذين دفنوا في قبور منظّمة والّذين تمّ الحفاظ على أجسادهم في حالة تسمح بإجراء اختبارات ال ـDNA. على سبيل المثال، في الطّاعون الأسود في العصور الوسطى، كانت هناك مجتمعات بأكملها تمّ القضاء عليها، ولم يبق أحد لدفن الموتى.

وهناك أيضًا فرق مهمّ بين الأوبئة. على الرّغم من أنّ الحديث عن وباء الطّاعون في كلتا الحالتين، إلّا أنّ البكتيريا ليست هي نفسها تمامًا. كانت بكتيريا يرسينيا بيستيس (Yersinia pestis) مسؤولة عن الطّاعون الأسود الشّهير في العصور الوسطى. تمّ اكتشاف بكتيريا يرسينيا بيستيس أيضًا في المقابر الإسكندنافيّة، ولكنّ هذه سلالة سابقة من البكتيريا، والّتي لا تزال تحتوي على تسلسلات جينيّة من بكتيريا يرسينيا السلية الكاذبة (Yersinia pseudotuberculosis)، والّتي تنتمي إلى نفس العائلة ولكنّها تختلف عن البكتيريا المألوفة. وقد تكون بعض الاختلافات بين البكتيريا ذات الأهمّيّة - على سبيل المثال، تفتقر البكتيريا من القبور إلى الجين الذي سمح لأقاربها اللّاحقين بالانتشار بمساعدة البراغيث.


المسؤول عن وباء الطاعون في العصور الوسطى، ويختلف عن السلالة التي اكتشفت في المقابر الإسكندنافيّة . | Kateryna Kon / Science Photo Library

على الرّغم من أنّ الدّراسة تظهر انتشار وباء واسع النّطاق في الدّول الإسكندنافيّة أثناء انهيار العصر الحجريّ الحديث، إلّا أنّ هذا لا يكفي لإثبات أنّ هذا كان السّبب الرّئيسيّ أو الوحيد لانهيار سكّان شمال أوروبا، ومن غير الممكن أن نستنتج من البيانات ما هو معدّل الوفيات الفعليّ بسبب الوباء أو معدّل الإصابة بالمرض بين السّكّان، لكنّ النّتائج مثيرة للاهتمام وتضيف مستوًى آخر إلى فهمنا لانتشار الأوبئة القاتلة في المجتمعات البشريّة.

 

استجابة واحدة

  • 🦂

    رائع مقال مفيد