لمعرفة سبب فعاليّة العلاجات الوهميّة (Placebo)، أنشأ الباحثون تأثيرًا مشابهًا من خلال التحفيز المباشر للدماغ
قد يكون لمسكّنات الألم القوية أعراض جانبيّة كبيرة، فرغم فعاليّتها وفوائدها في علاج العديد من الأشخاص، إلّا أنّ استخدامها لفترة طويلة قد يضرّ بالصحّة، بل قد يؤدّي إلى الإدمان. من المثير للدهشة أنّه في بعض الأحيان حتّى العلاجات الّتي لا يوجد سبب فعليّ للافتراض بأنّها ستخفّف الشعور بالألم، قد تحقّق ذلك بالفعل. تُعرف هذه الظاهرة بتأثير الدواء الوهميّ (Placebo effect)، حيث يشعر المُعالَج بتحسّن حتّى لو كان العلاج محايدًا تمامًا.
وُثّق هذا التأثير في العديد من الحالات، لكنّنا ما زلنا لا نفهم الآليّة الكامنة وراءه حتّى الآن. حاليًّا، يعمل العديد من الباحثين حول العالم على دراسة الأساس البيولوجيّ لتأثير الدواء الوهميّ. يكمن الهدف من وراء فهم الآليّة في تسخيرها لصالح الطبّ واستخدامها بشكل مستنير.
عادة ما يُنسَب تأثير الدواء الوهميّ لدى البشر إلى توقّع المريض بأنّ حالته سوف تتحسّن بعد العلاج. التفسير الشائع لذلك هو أنّه حتّى لو لم يكن للدواء نفسه تأثير فيزيولوجيّ، فإنّ توقّع المريض للتحسّن يساهم في تكييف نشاط الدماغ بما يتماشى مع هذه التوقّعات. ومع ذلك، فإنّ تفسير ظاهرة تأثير الدواء الوهميّ تصبح أكثر تعقيدًا عند فحصها على الحيوانات، حيث اتّضح أنّ الدواء الوهميّ يحسّن من حالة الحيوانات، على الرغم من أنّها - خلافًا للبشر- لا تمتلك وعيًا كافيًا للافتراض بأنّ العلاج سيحسّن من حالتهم في وقت لاحق.

التفسير الشائع لذلك هو أنّه حتّى لو لم يكن للدواء نفسه تأثير فيزيولوجيّ، فإنّ توقّع المريض للتحسّن يساهم في تكييف نشاط الدماغ بما يتماشى مع هذه التوقّعات. رسم توضيحيّ لمناطق الدماغ المشاركة في تخفيف الشعور بالألم | Fernando da Cunha / Science Photo Library
من النهاية وحتّى البداية
سعى باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتّحدة إلى دراسة آليّة العمل لتأثير الدواء الوهميّ. استندت الدراسة إلى "الهندسة العكسيّة" (Reverse Engineering) والّتي تساعد في تحديد آليّات العمل لعلاج معيّن عبر دراسة استجابة الدماغ له. لتحقيق ذلك، حاول الباحثون إنشاء تأثير الدواء الوهميّ بطريقة استباقيّة من خلال تنشيط خلايا عصبيّة محدّدة في أدمغة الفئران. قد يشكّل هذا النموذج التجريبيّ أداة قيّمة للباحثين والأطباء بدراسة الدواء الوهميّ بعمق وفهمها بشكل أفضل.
تناولت الدراسة نوعين من الألم بشكل منفصل: الألم الحادّ، وهو الألم قصير الأمد الّذي نشعر به لحظة الإصابة ويتلاشى تدريجيًّا؛ والألم المزمن، وهو الألم طويل الأمد الّذي يرافق بعض الحالات المزمنة مثل الالتهاب المفصليّ الروماتويديّ (Rheumatoid arthritis). أوّلًا، فحص الباحثون تأثير الدواء الوهميّ في الألم الحادّ من خلال تنشيط مباشر لخلايا عصبيّة معيّنة في أدمغة الفئران، والموجودة في منطقة اللوزة الدماغيّة (Amygdala). وفقًا لدراسة سابقة لنفس المجموعة البحثيّة، تبيّن أنّ هذه الخلايا تنشط أثناء عمليّة تخفيف الألم.
في المرحلة الأولى من التجربة، خضعت الفئران لعمليّة تكييف، حيث حُقنت أقدامها بالكابسيسين (Capsaicin)، وهو المركّب المسؤول عن الطعم الحارّ في الفلفل، والّذي يسبّب إحساسًا بالألم. تمّ قياس شدّة الألم لدى الفئران بناءً على مدى لعقها لساقها المصابة. في هذه الأثناء، نُقلت الفئران إلى بيئة جديدة وهناك نشّط الباحثون خلايا اللوزة الدماغيّة المسؤولة عن تخفيف الألم لهذه الفئران. نتيجة لذلك، تعلّمت الفئران ربط هذه البيئة بالشعور بتخفيف الألم.
في الخطوة التالية، بعد تعريض الفئران للألم ونقلها إلى البيئة الّتي كانت قد تعلّمت ربطها مع الشعور بالارتياح، لم ينشّط الباحثون خلايا اللوزة الدماغيّة لديها. وعلى الرغم من ذلك، أظهرت الفئران ألمًا أقلّ، بدون تفعيل أيّة تأثيرات خارجيّة عليها. وهكذا يبدو أنّ تأثير الدواء الوهميّ قد تمّ تحقيقه بنجاح.
بعد ذلك، فحص الباحثون تأثير الدواء الوهميّ في الألم المزمن من خلال حقن الفئران بعلاج كيميائيّ يسبّب ألمًا طويل الأمد. خضعت هذه الفئران أيضًا لعمليّة التكييف الّتي تربط تخفيف الألم ببيئة محدّدة، على غرار تجربة الألم الحادّ. وهذه المرّة أيضًا، عندما وضعوا الفئران لاحقًا في هذه البيئة دون تحفيز أدمغتها، انخفض شعورها بالألم. بالتالي، يمكننا الاستنتاج أنّ تأثير الدواء الوهميّ الّذي أنشأه الباحثون في المختبر كان قادرًا على تخفيف النوعَين كليهما من الألم.

تعلّمت الفئران ربط البيئة الجديدة بتخفيف الألم، حيث قلّت وتيرة لعقها لساقها المؤلمة. فأر أبيض | Shutterstock, Iva Dimova
البحث عن الألم
في مرحلة لاحقة من الدراسة، فحص الباحثون مستوى نشاط الخلايا المسؤولة عن تخفيف الشعور بالألم. بناءً على النتائج السابقة، توقّع الباحثون أنّ نقل الفئران إلى البيئة المرتبطة بالارتياح سيؤدّي تلقائيًّا إلى تنشيط هذه الخلايا، ما قد يقلّل من إحساسها بالألم. مع ذلك، فوجئ الباحثون عندما وجدوا أنّ خلايا اللوزة الدماغيّة ظلّت غير نشطة، على الرغم من أنّ سلوك الفئران أشار إلى تخفيف شعورها بالألم. يمكن الاستنتاج من ذلك أنّ تخفيف الشعور بالألم الناجم عن تأثير الدواء الوهميّ يحدث في منطقة مختلفة من الدماغ، وأنّنا ما زلنا لا نفهم كلّ التعقيدات المتعلّقة بآليّة تخفيف الألم.
قد تقدّم الدراسة الجديدة شيء مهمّ كان مفقودًا في أبحاث العلاج الوهميّ حتّى الآن: النموذج. يسمح النموذج الجيّد لظاهرة علميّة بطرح أسئلة دقيقة وفهمها بشكل أعمق. وفي هذه الحالة، يسمح لنا بتتبّع نشاط الدماغ الّذي يكمن وراء تأثير الدواء الوهميّ. كما تثير الدراسة قضايا محدّدة سيحتاج الباحثون للإجابة عنها في المستقبل. على سبيل المثال، يجب أن نفهم أيّة مناطق من الدماغ تشارك في تخفيف الألم، وكيف تعمل معًا، وما هو دور اللوزة الدماغيّة في هذه العمليّة. ستحتاج الدراسات المستقبليّة إلى تكرار نتائج الدراسة وتعزيز استنتاجات الباحثين. بهذه الطريقة، قد نتمكّن من فهم ظاهرة الدواء الوهميّ بشكل أفضل وحتّى نتمكّن من استخدامها علاجيًّا.