هندس الباحثون، في دراستين مختلفتين، البكتيريا، بحيث تفرز الموادّ - الهورمونات لدماغ الفئران، والإنزيمات المضادّة للأكسدة لِخلايا مزرعة خلويّة. هل يمكن أن ترسل البكتيريا الأدوية إلى الدّماغ عن طريق الأنف؟

يتيح الحاجز الدّمويّ الدّماغيّ، ذو البنية الغشائيّة الانتقائيّة، لعدد قليل جدًّا من الجزيئات العبور من  مجرى الدّم إلى خلايا الدّماغ من خلاله. ليس من السّهل، بسبب هذا الحاجز، إرسال الأدوية إلى الدّماغ مباشرةً عن طريق مجرى الدّم - سواء حُقِنت الأدوية في الوريد أو ابتلِعَت عن طريق الفم، لِيمتصّها الدّم عن طريق الجهاز الهضميّ. إحدى الطرق لِتخطّي هذا الحاجز هي تمرير الأدوية، من خلال الجيوب الكهفيّة الأنفيّة، حيث تتواجد الظّهارة الشّمّيّة (أو النّسيج الطّلائيّ الشّمّيّ). تغطّي خلايا النّسيج الطّلائيّ (الأيبيتال) أجزاءً من أعضاء الجسم من الداخل؛ يحتوي النّسيج الطّلائيّ الشّمّيّ، من ضمن ما يحتوي عليه، على مستقبلات الرّائحة: وهي خلايا من خلايا الجهاز العصبيّ المتّصلة مباشرةً بالبصلة الشّمّيّة (olfactory bulb) - أي بالمنطقة المسؤولة عن حاسّة الشّمّ في الدّماغ. لكن، عند إعطاء الدّواء بواسطة قطرات أو بخّاخ في الأنف، يُستهلَك القليل من الدّواء، ولا يصل جزء كبير منه إلى الطّلاء الشّمّيّ، إذ تمتصّ خلايا طلاء الجهاز التّنفّسيّ جزءًا من كمّيّته الصّغيرة أصلًا. هَنْدَسَ الباحثون، لِلتّغلب على هذه المشكلة، البكتيريا الّتي تعيش في الجيوب الكهفيّة الأنفيّة، بحيث تُفرز أدوية تصل إلى الدّماغ مباشرةً. 

تعيش البكتيريا في الجيوب الكهفيّة الأنفيّة، وهي بكتيريا مقيمة دائمة غير ضارّة. أراد ماثيو ووك تشانغ (Wook Chang) وزملاؤه من الجامعة الوطنيّة في سنغافورة أن يَفحصوا فيما إذا كان من الممكن استخدام هذه البكتيريا لِإرسال الأدوية إلى الدّماغ، جاء ذلك في البحث الّذي نُشِر تفاصيله في مجلة Cell. تبيَّن للباحثين أنّ البكتيريا لاكتوباسيلس بلانتا روم (Lactobacillus plantarum) موجودة على النّسيج الطّلائيّ الشّمّيّ لدى الإنسان، وغير موجودة على طلاء الجهاز التّنفّسيّ. أضاف الباحثون صبغة مضيئة (فلورسنتية) إلى البكتيريا، ووجدوا أنّ البكتيريا الّتي تمّ تقطيرها في أنوف الفئران تركّزت في النّسيج الطّلائيّ الشّمّيّ فقط، إلّا أنّ كمّيّتها انخفضت بعد مرور 72 ساعةً، مقدار ثلاثة حتّى أربعة مرات من كمّيّتها في أوّل 24 ساعةً. وُجدت في الفحوصات الإضافيّة الّتي أجراها الباحثون كمية كبيرة من البكتيريا في براز الفئران وفي أمعائِها الغليظة، ما قد يشير إلى التّخلّص من فائض البكتيريا، مع مرور الزّمن، عن طريق الجهاز الهضميّ. هَنْدَسَ الباحثون البكتيريا بحيث تُفرَز المادّة المضيئة إلى الخارج - وعندها يمكن رؤيتها - ووجدوا أنّ المادة وصلت إلى البصلة الشّمّيّة، ومنها لسائر الدّماغ، خاصّةً إلى الفصوص الجبهيّة الأماميّة.  

ازداد وزنها - لكن أقلّ!

هندس الباحثون البكتيريا بحيث تفرز هرمونات تعمل في الدّماغ على ضبط الشّهيّة، وذلك لاختبار القيمة العلاجيّة لهذه الطّريقة. قطروا كمّيّة قليلة من البكتيريا يوميًّا في أنوف فئران نحيفة، وقدّموا لهذه الفئران، في نفس الوقت، غذاء غنيًّا بالدّهون. ازداد وزن فئران المجموعة الضّابطة، الّتي لم تُعالَج بالبكتيريا، بحوالي الثّلث - بمعدّل 7 غرامات - بعد ثمانية أسابيع. أمّا وزن الفئران الّتي عولجَت بالبكتيريا فقد ازداد غرامًا واحدًا حتّى ثلاثة غرامات، وكانت أنسجتها الدّهنيّة أصغر. 

وأجرى الباحثون أيضًا اختبار تحميل الجلوكوز على الفئران، لفحص وجود حالة ما قبل السُّكّريّ -  حالة تكون فيها مستويات السّكّر أعلى من المعدّل الطّبيعيّ، وقد تتطوّر إلى مرض السّكّريّ من النّوع 2. كانت الحالة الصّحّيّة للفئران الّتي حصلت على العلاج، في هذا الفحص أيضًا، أفضل من فئران المجموعة الضّابطة. قارن الباحثون، ضمن تجربة أُخرى، بين الفئران الّتي حصلت على البكتيريا والفئران الّتي حصلت على نفس الدواء، عن طريق قَطْره في الأنف. أدّى الدّواء هو الآخر إلى إبطاء الازدياد في وزن الفئران، إلّا أنّ العلاج بالبكتيريا كان أكثر نجاعةً. يعتقد الباحثون، بناءً على ذلك، أنّ علاجًا كهذا قد يُشكّل طريقة ناجعة لإرسال الدّواء إلى الدّماغ. 

نُشرت في مجلة Cell Systems دراسة أخرى، هَنْدَسَ فيها طاقم الأبحاث والدراسات التابع لِمارك غوئيل (Güell) من جامعة بومبيو فابرا في إسبانيا، بكتيريا الجلد البروبيونية العدّيّة (Cutibacterium acnes)، بحيث تُفرز إنزيمات مضادّة للأكسدة، لوقاية الجلد من أضرار الأكسدة النّاجمة عن الأشعّة فوق البنفسجيّة، عند التّعرّض المتواصل لأشعة الشّمس. هندس الباحثون أيضًا كاشفًا جزيئيًّا يستشعر الأشعّة، ويفرز الإنزيمات المضادّة للأكسدة في نطاق ردّ فعله عليها. جرى تطبيق ذلك على مزارع الخلايا، ولم تُجرّب الطّريقة على كائن حيٍّ بعد. 

قد تُستخدم البكتيريا غير الضّارّة إذًا تقنيةً طبّيّةً في المستقبل. قد نتمكّن، بمساعدة البكتيريا، من إرسال الأدوية إلى الدّماغ مباشرةً، أو إلى أماكن أخرى في الجسم يصعب علاجها، وربّما نحمي أنفسنا من أشعّة الشّمس أيضًا. 

 

0 تعليقات