أودت الحرب في أوكرانيا بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص، ويبدو أنّها تهدّد حياة الناس من اتّجاه آخر أيضًا- وتُسرِّع تطوّر بكتيريا مقاومة للمضادّات الحيويّة
مقاومة البكتيريا للمضادّات الحيويّة هي مشكلة تستفحل أكثر وأكثر، وتهدّد الصحّة العامّة في جميع أنحاء العالم. تطوّر بعض سلالات البكتيريا المقاوِمة، مقاوِمات لمضادّات حيويّة عديدة، وأحيانًا لجميع أنواع المضادّات الحيويّة المتاحة في عالم الطبّ. تستغل هذه البكتيريا حركة الأشخاص بين البلدان، وبالتالي تنتشر في جميع أنحاء العالم.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، زادت حالات الإصابة بالبكتيريا المقاوِمة، ووفقًا لاتّجاه هجرة البكتيريا، تمّ اكتشاف البكتيريا المقاوِمة الّتي تنشأ في أوكرانيا في جميع أنحاء أوروبا وحتّى في اليابان.
مقاومة المضادّات الحيويّة
عندما يتمّ استخدام المضادّات الحيويّة بجرعات غير مناسبة أو بشكل غير منتظم، فإنّ البكتيريا الحسّاسة لها تموت، في حين إنّ تلك المقاومة لها تبقى حيّة وتتكاثر. على عكس البشر، فإنّ وتيرة تكاثر البكتيريا مرتفعة للغاية، وكذلك وتيرة تكوين الطفرات- الأخطاء العشوائيّة في عمليّة تكرار المادّة الوراثيّة، الحمض النوويّ DNA.
تحدث أحيانًا طفرات عشوائيّة في البكتيريا تمنحها مقاومة للمضادّات الحيويّة، ما يسمح لها بالتكاثر رغم وجودها. لكنّ القصة لا تنتهي هنا: يمكن للبكتيريا تبادل المادّة الوراثيّة من خلال آليّة مخصّصة، ليس فقط بين أفراد من نفس النوع، ولكن أيضًا بين أنواع مختلفة. وبهذه الطريقة، يمكن أن ينتقل جين يمنح المقاومة من بكتيريا إلى أخرى، ما يُسرِّع من تطوّر سلالات بكتيريّة مقاوِمة تنتمي إلى أنواع متعدّدة.
تستخدم البكتيريا المقاوِمة عدّة آليّات لحماية نفسها من المضادّات الحيويّة. إحدى هذه الآليّات هي تجنيد إنزيمات تعمل على تحطيم المضادّ الحيويّ أو إخراجه خارج الخليّة البكتيريّة. بالإضافة إلى ذلك، هناك آليّات تُحدث تغييرات في الخليّة البكتيريّة نفسها، مثل تعديل جدارها أو تغيير موقع ارتباط المضادّ الحيويّ.
بالإضافة إلى ذلك، قد تفرز البكتيريا مادّة في بيئتها لتشكّل بيوفيلم Biofilm– وهو عبارة عن مستعمرة من البكتيريا الملتصقة ببعضها على سطح معيّن، ومحاطة بمادّة بوليمريّة خارجيّة تقوم بإفرازها. يعمل البيوفيلم كحاجز يحمي البكتيريا داخل المستعمرة، ما يمنع الموادّ الخارجيّة، مثل المضادّات الحيويّة وخلايا الجهاز المناعيّ، من الوصول إلى الخلايا البكتيريّة. يمكن أن يتشكّل البيوفيلم على الأسنان، داخل القساطر الطبيّة (الكاثترات)، وحتّى داخل الجسم، ما يجعله مشكلة كبيرة في المجال الطبيّ، حيث إنّ المضادّات الحيويّة تواجه صعوبة في اختراقه وعلاجه بفعاليّة.

تعتبر بكتيريا كليبسيلا الرئويّة مسؤولة عن حوالي خُمس الوفيات الناجمة عن البكتيريا المقاوِمة في العالم. بكتيريا كليبسيلا الرئويّة | Corona Borealis Studio, Shutterstock
"العدوّ الداخليّ"
خلال الثلاثين سنة الماضية، زادت حالات الوفاة للأشخاص فوق سنّ السبعين بسبب مقاومة المضادّات الحيويّة بنسبة حوالي 70 في المائة. ففي سنة 2021، كانت البكتيريا المقاوِمة مسؤولة بشكل مباشر عن وفاة 1.4 مليون شخص، وكانت متداخلة في 4.7 مليون حالة وفاة إضافيّة– أي أكثر من وفيات فيروس نقص المناعة البشريّة/ الإيدز والملاريا. ووفقًا للتقديرات، فإنّه من المتوقّع أن تكون البكتيريا المقاوِمة متداخلة في حوالي عشرة ملايين حالة وفاة سنويًّا بحلول سنة 2050.
لمكافحة انتشار البكتيريا حول العالم، وُضعت بروتوكولات سريعة لتحديد وعزل الأشخاص المصابين ببكتيريا ذات مقاومة واسعة للمضادّات الحيويّة. واحدة من أكثر البكتيريا المثيرة للقلق تُعرف باسم كليبسيلا نيومونيا (Klebsiella pneumoniae)، وهي مسؤولة عن حوالي خُمس حالات الوفاة الناتجة عن البكتيريا المقاوِمة على مستوى العالم.
تتواجد هذه البكتيريا بشكل طبيعيّ على الجلد، في الفمّ والأمعاء، تُصيب بشكل أساسيّ الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة. ومع ذلك، يمكن لبعض السلالات العنيفة والمقاوِمة للمضادّات الحيويّة أن تُلحق الضرر حتّى بالأشخاص السليمين. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو اكتشاف انتقال جينات المقاومة من كليبسيلا نيومونيا إلى أنواع أخرى من البكتيريا.
في أوكرانيا، حوالي 80% من حالات العدوى الّتي تسبّبها هذه البكتيريا تعود إلى سلالات مقاوِمة– وهي نسبة أعلى بعشر مرّات مقارنة ببقيّة أوروبا. تُشكّل هذه البكتيريا المقاوِمة تحدّيًا كبيرًا في علاج الجرحى، وتتطلّب بروتوكولات علاجيّة طويلة الأمد تشمل عدّة أنواع من المضادّات الحيويّة.
في دراسة نُشِرت مؤخّرًا، قام الباحثون بعزل 37 سلالة مقاوِمة من بكتيريا كليبسيلا نيومونيا من جرحى الحرب في أوكرانيا. بعد إجراء اختبارات جينيّة وفحوصات للمقاومة، اكتشفوا أنّ خمس سلالات كانت مقاوِمة أيضًا لـكاربابينيم وسيفالوسبورين– وهما نوعان من المضادّات الحيويّة يُستخدمان كخيار علاجيّ شبه أخير في مواجهة البكتيريا شديدة المقاومة. بالإضافة إلى ذلك، كانت تسع سلالات مقاوِمة لـكوليستين، وهو مضادّ حيويّ يُستخدم كخيار أخير لعلاج السلالات المقاوِمة.
في جميع السلالات المعزولة، وجد الباحثون جينات مرتبطة بعنف البكتيريا. وعند اختبار تأثير هذه البكتيريا في الحيوانات، لاحظوا أنّ يرقات العثّ الّتي حُقنت بالبكتيريا المقاوِمة وغير المقاوِمة، دون وجود مضادّات حيويّة، ماتت بسرعة أكبر عند إصابتها بالبكتيريا المقاوِمة. إضافة إلى ذلك، أظهرت الفحوصات أنّ الفئران المصابة بالسلالات المقاوِمة كانت أكثر عرضة للإصابة بالتهاب رئويّ مقارنةً بتلك المصابة بالسلالات غير المقاوِمة. تشير هذه النتائج إلى أنّ عنف البكتيريا قد ازداد جنبًا إلى جنب مع مقاومتها للمضادّات الحيويّة، وهو أمر مثير للاهتمام، خاصّةً أنّ هناك حالات معروفة حيث أدّت مقاومة المضادّات الحيويّة إلى انخفاض عنف البكتيريا بدلًا من زيادته.
في أوكرانيا وغيرها من البلدان الّتي كانت جزءًا من الاتّحاد السوفييتيّ، لم تكن هناك رقابة على استخدام المضادّات الحيويّة على مرّ السنين. مستشفى لفيف الميدانيّ، أوكرانيا | Bumble Dee, Shutterstock
استخدام غير مراقَب للمضادّات الحيويّة في أوكرانيا
يحدث تطوّر السلالات المقاوِمة عادة بسبب الاستخدام غير المدروس للمضادّات الحيويّة. في أوكرانيا، كما في دول أخرى، كانت جزءًا من الاتّحاد السوفيتيّ، لم تكن هناك دائمًا رقابة على استخدام المضادّات الحيويّة على مرّ السنين، بل كانت بعض المضادّات الحيويّة متاحة للبيع بدون أيّ إشراف طبيّ. في سنة 2021، أطلقت الدولة برنامجًا جديدًا للرقابة على استخدام المضادّات الحيويّة، إلّا أنّ البرنامج توقّف بسبب اندلاع الحرب في سنة 2022.
خلال الحرب، تعرّض العديد من الجرحى لإصابات جرّاء إطلاق النار أو شظايا القذائف– وهذان سيناريوهان يكادان يضمنان دائمًا دخول بكتيريا مسبّبة للأمراض إلى الجسم. في بعض الحالات، تمّ علاج الجرحى بعد ساعات قليلة من الإصابة، دون إجراء فحص شامل، ما دفع الفريق الطبيّ إلى توجيههم لتناول المضادّات الحيويّة واسعة الطيف فورًا لمنع العدوى. وعلى الرغم من أنّ هذا العلاج يُعدّ ضروريًّا في مثل هذه الحالات، إلّا أنّ الاستخدام الواسع للمضادّات الحيويّة– والّذي لم تكن دائمًا له ضرورة طبيّة حقيقيّة– يزيد من خطر تطوّر البكتيريا المقاوِمة.
كما أصبح واضحًا للجميع خلال جائحة كورونا، فإنّ البكتيريا والفيروسات وغيرها من مسبّبات الأمراض لا "تعترف" بحدود الدول، ولا تمنع الحدود انتشارها. تُعجِّل الحرب في أوكرانيا من تطوّر مقاومة البكتيريا للمضادّات الحيويّة، وهي مثال حيّ على تأثير الأزمات السياسيّة على المشاكل الصحيّة واسعة النطاق. وبما أنّ البكتيريا المقاوِمة تشكّل خطرًا صحيًّا على البشريّة جمعاء، فإنّه من الواجب أن تتعاون جهات عديدة حول العالم لوقف انتشارها.