يكشف بحث جديد عن ظاهرة مذّ\هلة أثناء مواسم هجرة الطّيور، حيث تُحلّق طيور من رتبة العُصفوريّات على اختلاف أنواعها جنبًا إلى جنب، وتتبادل النّداءات فيما بينها. ترى ما نوع الحديث الّذي يدور بينها؟ لا يسعنا سوى التّخمين بينما نصغي إلى تغريداتها المتنوّعة

في كلّ خريف، تستعدّ الطّيور على اختلاف أنواعها في الجّزء الشّماليّ من الكرة الأرضيّة لرحلةٍ طويلةٍ من الهجرة إلى أماكن أكثر دفئًا لقضاء فصل الشّتاء، ثمّ تعود إلى موطنها في فصل الرّبيع. تطير أسراب الطّيور الكبيرة، كاللّقالق والبجع، في وضح النّهار. بينما تفضّل العصفوريّات الصّغيرة الهجرة ليلًا والتّوقّف للرّاحة في ساعات النّهار. وبما أنَّ معظم هذه الطّيور تعيش لسنوات معدودة، فإنّ عددًا كبيرًا منها يخوض تجربة الهجرة لأوّل مرّة كلّ عام. لكن، كيف تعرف هذه الطّيور وجهتها؟ وكيف تحدّد مسارها الصّحيح؟ وكيف تنجح في مواجهة مخاطر الطّريق؟ 

الافتراض السّائد بين العلماء المتخصّصين في دراسة هجرة الطّيور، يُرجّح أنَّ الهجرة جزء من غريزة الطّيور الطّبيعيّة، حيث تولَد مزوّدة بمعرفة فطريّة تقودها إلى وجهتها المحدّدة. ولكن، تشير الأبحاث الحديثة أنّ الأمر لا يقتصر على الغريزة فحسب؛ فقد تتلقّى الطّيور معلوماتٍ مهمّة من رفاقها في الهجرة، سواء كانوا من النّوع نفسه أو من أنواع مختلفة. 

في دراسة نُشرت مُؤخّرًا، حلّل مجموعة من العلماء الأمريكيّين أصواتًا سُجّلت في وقت هجرة الطّيور اللّيليّة على امتداد السّاحل الشّرقيّ لأمريكا الشّماليّة. حيث كشفت الدّراسة أنّ طيورًا من أنواع مختلفةٍ حلّقت جنبًا إلى جنب، وأطلقت نداءاتها في ذات الوقت، بوتيرة أعلى ممّا كان متوقعًا من تحليقها بشكلٍ عشوائيّ. ما طبيعة هذه النّداءات يا ترى؟ سؤال يظلّ بلا إجابة واضحة... على الأقلّ في الوقت الحاليّ.


أظهرت البيانات أنَّ بعض الأنواع حلّقت معًا لفترة أطول ممّا كان متوقعًا، ممّا يشير إلى أنَّ الطّيور اختارت البقاء جنبًا إلى جنب أثناء إطلاق نداءاتها. هوازج العالم الجديد من نوع Setophaga ruticilla |  مصدر:  Andrew Dreelin

الغريزة ليست الفصل الوحيد في الحكاية 

قام الباحثون بدراسة تسجيلات لأكثر من 18,300 ساعة من الهجرة اللّيليّة، جُمعت من 26 موقعًا مُختلفًا. حيثُ تمكّنوا من تمييز نداءات 27 نوعًا مختلفًا: نوعان من البلشونيّات، و 25 نوعًا من العصفوريّات من عائلاتٍ مختلفة، منها هوازج العالم الجديد (Parulidae)، السُّمْنِيَّةُ (Turdidae)، الصَّفراويَّات (Icteridae)، وعصافير العالم الجديد (Passerellidae). "تُطلق هذه الطّيور نداءاتها باتّجاه السّماء، ربّما تنشر معلومات عن هويّتها وماذا ينتظر رفاقها في الطّريق"، قال بنجامين فان دورن (Van Doren)، الّذي قاد البحث في مقابلة مع موقع نوتيلاس (NAUTILUS). 

بالاستعانة بعدّة نماذج حسابيّة، قام الباحثون بحساب المدّة الّتي يُفترض أن تحلّق خلالها الطّيور جنبًا إلى جنب إذا كانت تطير بشكل عشوائيّ، متأثّرة فقط بالعوامل الفيزيائيّة، مثل التّضاريس وحالة الطّقس. كشفت المعلومات الّتي جُمِعت في مواسم الهجرة، أنّ أنواعا معيّنة من الطّيور حلّقت معًا لفترة أطول بكثير ممّا توقّعته النّماذج الحسابيّة، أيّ أنّ الطّيور فضّلت البقاء بجانب بعضها البعض أثناء إطلاق نداءاتها. كما وتبيّن أنّ الطّيور الّتي تمتلك أجنحة متشابهة بالحجم سُمعت معًا بشكلٍ متكرّر- ويعود ذلك على الأرجح إلى أنّ هذه الأنواع تطير بسرعة متقاربة، ممّا يسمح لها بالتّواصل المستمرّ أثناء ساعات الهجرة الطّويلة. بِالإِضَافَةِ إلى ذلك، تبيّنَ أنَّ الأنواع الّتي تُصدر نداءات متقاربة أمضت الكثير من الوقت جنبا إلى جنب. حيث لوحظ أنّ الطّيور لم تقم بمرافقة أنواع تنتمي إلى نفس عائِلَاتها بالضّرورة؛ بل يبدو أنّها اختارت رفاق الهجرة بناءً على الصّفات المشتركة، وليس على القرابة الجينيّة. مع ذلك، لم تُرصَد أيّ نداءات مشتركة بين العصفوريّات والبلشونات. 

هل من الممكن أن يُساهم التّواصل بين الأنواع المختلفة من الطّيور في مساعدتها على التّغلّب على مخاطر الهجرة وتحدّياتها؟ صرّح فان دورن بأن لا شك في أنّ الطّيور تمتلك غريزة فطريّة للهجرة، "ولكن هناك جزء مفقود من الحكاية، فقد كشفت دراستنا عن إِمكانيَّة استعانة العصفوريّات بالعلاقات الاجتماعيّة الّتي تبنيها مع أنواع مختلفة من الطّيور أثناء الهجرة". 


تميل أنواع مختلفة من الطّيور إلى التّوقّف الاستراحة في نفس الأماكن أثناء الهجرة. في دراسة سابقة، وُجد أنَّ طائر ال (Yellow-rumped Warbler) غالبًا ما يتواجد بالقرب من أفراد من عائلة عصافير العالم الجديد | المصدر: Gerald A. DeBoer, Shutterstock 

رفاق في التّرحال، وآخرون عند الرّاحة 

في دراسة سابقة، شارك فيها عدد من الباحثين المشاركين في المقالة الجديدة، وُجِد أنَّ أنواعًا مختلفة من الطّيور اعتادت على التّوقّف للاستراحة في نفس الأماكن أثناء هجرتها، بل وتعود إليها سويّاً سنة تلو الأخرى. بالاستعانة بشبكات الصيد، قام الباحثون بالتقاط الطّيور أثناء استراحتها في أماكن مختلفة، ثمّ فحصوا أيّ الأنواع أُمسكت سويًّا. على سبيل المثال، رُصدت  ثلاثة أنواع مختلفة من عائلة هوازج العالم الجديد، تتوقّف بشكل متكرّر في نفس المكان خلال فترة لا تتجاوز 45 دقيقة. كما ورُصدت روابط أخرى بين طيور من عائلات مختلفة، مثل طائر ال (Setophaga coronata) الّذي تكرّر تواجده مع أفراد من نوع Zonotrichia albicollis، من عائلة عصافير العالم الجديد.     

 على عكس توقّعاتهم، اكتشف العلماء أنّ أنواع الطّيور الّتي اعتادت على قضاء أوقات الرّاحة معًا، تختلف عن تلك الّتي سُمعت نداءاتها سويًّا أثناء التّحليق اللّيليّ. "هذه النّتيجة مثيرة للاهتمام"، قالت جولي دي-سيمون (DeSimone)، المشاركة في كلا البحثيْن، في بيان صحفيّ. "يشير هذا الاختلاف إلى احتماليّة إعادة العصفوريّات تنظيم علاقاتها الاجتماعيّة أثناء الانتقال بين التّرحال والرّاحة، أي أنّها تميل إلى تشكيل علاقات تدعم سلوكيّات الطّيران والملاحة أثناء التّحليق، وأخرى على الأرض يمكن تفسيرها بشكل أفضل باستخدام سلوك مشابه في البحث عن الطّعام".

اختّتم فان دورن: "يشكّك هذا البحث في الفكرة السّائدة منذ زمنٍ طويلٍ، بأنَّ العصفوريّات تهاجر بمفردها، معتمدة فقط على غريزتها الفطريّة". كما أضاف " إنّ الفهم المعمّق أكثر لتبعيّات هذه العلاقات الاجتماعيّة -لا يقتصر على الهجرة فقط، بل يمتدّ إلى جوانب أخرى من حياة الطّيور- ضروريّ لنتمكّن من مساعدتها  في مواجهة المخاطر الّتي تواجهها في هذا العالم المتغيّر".

 

0 تعليقات