لا يتغذّى بنو البشر الأحياء على أمخاخ النّاس ولا يشربون دماءَهم من الأوردة. لكن، ما هو حال الموتى الأحياء الّذين هم من نسج خيالنا؟ يبدو أنّ شأنهم مختلف عنّا تمامًا
يمكن، في كثير من الأحيان، أن نستدلّ على شخصيّة الإنسان ممّا اعتاد أن يتغذّى عليه. يُملي غذاء الحيوانات في الطّبيعة عليها مزاجها ودوافعها، وحتّى طريقة تربيتها لصغارها. طوّرت الثّدييّات مثلًا القدرة على تغذية صغارها بِحليب غنيّ بالدّهنيّات والبروتينات (الزّلال) والفيتامينات المغذّية. الرّابطة غير المرئيّة بين النّسْل وبين الوالديْن، مثلًا لدى الحشرات والزّواحف واضعة البيض، مشتقّة من تعلُّق جراء الثّدييّات المطلق بحليب الأمّ. هناك فرق كبير بين سلوك القردة آكلة أوراق الشّجر، البطيئة "الكسولة" بسبب الهضم البطيء للسّليولوز، والحاجة للبقاء قريبًا من مصدر الغذاء، وبين أصناف القرود آكلة كلّ شيء، الأكثر نشاطًا وفعاليّة إلى حدّ كبير.
يمكن أن يُقال ذات الشّيء عمّا ننسجه في خيالنا- من الآلهة وأبطال الأساطير، العمالقة والأقزام، الجِنّيّات والوحوش الّتي تطاردنا وتثير الذّعر فينا. ينطبق ذلك أيضًا على المخلوقات الخياليّة، مثل مصّاصي الدّماء الّذين يستمدّون قوّتهم، حسب الأساطير، من شرب دماء البشر، أو الموتى الأحياء (الزّومبي) الّذين يعشقون أكل أمخاخ النّاس الطّازجة. تبقى هذه الكائنات على قيد الحياة بفضل غذائها المميّز، على الرّغم من الأمراض العضال الّتي قد يحتوي عليها.
قطيع من الموتى الأحياء (الزّومبي)، المخلوقات الخياليّة الّتي تعشق أمخاخ النّاس الطّازجة | FOTOKITA, Shutterstock
ماذا نأكل نحن؟
"يجب أن يكون الطّعام هو الدّواء"، إذ تبدأ جميع الأمراض من الأمعاء، ذلك ما ادّعاه هيبوقراطس، الطّبيب اليونانيّ المولود في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح. كان من الواضح حينها أنّ بعض أنواع الأغذية مفيدة للصّحّة، وقد تضرّها مأكولات أُخرى. إذًا، ماذا يفترض بنا أن نأكل؟
تعني كلمة "دييتا" (النّظام الغذائيّ أو الحِمية الغذائيّة) اليونانيّة نمط الحياة الجسمانيّ والعقليّ معًا، ويحتلّ الغذاء مكانةً مركزيّةً في حياتنا، هذا ما تؤكّده وتصادق عليه الدّراسات الحديثة العصريّة مرارًا وتكرارًا. من خلال دراسة نُشرت سنة 2018 في مجلة Circulation فُحصت العلاقة بين نمط الحياة والموت المبكّر في الدّول الغربيّة. شُخّصت خمسة عوامل تزيد من متوسّط العمر المتوقّع، وذلك بالاعتماد على تحليل البيانات الّتي جُمِعت عن 120 ألف شخص من الطّواقم الطّبّيّة إناثًا وذكورًا. العوامل الخمسة هي: مؤشّر وزن الجسم (BMI) سليم، الامتناع عن التّدخين، المشي يوميًّا لمدّة نصف ساعة، عدم الإفراط في تناول المشروبات الكحوليّة ونظام غذائيّ متوازن. زاد متوسّط عمر الأشخاص البالغين خمسين عامًا، الّذين حافظوا على هذه العوامل 12 - 14 سنة عن معدّل عمر أولئك الّذين لم يتقيّدوا بأيٍّ من هذه العوامل.
أنواع الأنظمة الغذائيّة
من الأمور الهامّة الّتي ينبغي علينا تشخيصها عند اختيار النّظام الغذائيّ المناسب لنا، هي اختيار الأنظمة الغذائيّة الّتي تعتمد مساهمتها في الصّحّة على الدّراسات الموثوقة، مثل الأبحاث الّتي تتناول النّظام الغذائيّ البحر متوسّطيّ. هذه الأنظمة الغذائيّة مفضّلة دائمًا على الأنظمة "الموضويّة" الّتي تَعِد بالحلول السّحريّة السّريعة بدون دلائل علميّة، وقد تضرّ من يعتمدها.
قد يكون النّظام الغذائيّ قليل الكربوهيدرات هو من النّوع الأوّل. يعتمد هذا النّظام على تقليل كمّيّة الكربوهيدرات من مجمل ما نستهلكه من الغذاء، وتفضيل الزّلال (البروتين) والدّهون غير المشبعة. قد يساهم هذا النّظام، فيما إذا كان غنيًّا بالغذاء النّباتيّ، في منع أمراض القلب أو السُّكّريّ. قد يشجّع الاستهلاك المفرَط للسُّعرات الحراريّة، مثل استهلاك الأغذية الّتي توفِّر فائضًا من السُّعرات، السُّمنة الّتي قد تشوّش بدورها نشاط آليّات عمليّات الأيض في الجسم.
يكاد النِّظام الغذائيّ الغنيّ بالدُّهنيّات يعتمد المبدأ ذاته، مثل "نظام أتكنز" الّذي أخذت شعبيّته تزداد في سنوات السّبعين من القرن الماضي (القرن العشرين). تلك هي نسخة متطرّفة من النِّظام الغذائيّ الفقير بالكربوهيدرات، حيث لا يتعدّى استهلاك الكربوهيدرات بحسبها، في بعض مراحلها، 20- 50 غرامًا في اليوم. أشارت الدّراسات إلى أنّه حتّى وإن نجح مُتّبعو هذا النّظام في تقليل أوزانهم، فقد عادت أوزانهم وارتفعت خلال سنة واحدة، ذلك على الرّغم من أنّ مؤيّدي النِّظام يعِدون بأنّه يساعد على إنقاص الوزن وأنّه من السّهل نسبيًّا اتّباعه. قد يؤدّي استبدال الكربوهيدرات بِزيادة استهلاك الدّهون الحيوانيّة إلى تشويش توازن الكولسترول في الدّم، بحيث يزيد خطر أمراض القلب والأوعية الدّمويّة. عادةً ما تُرافق نظام أتكنز الغذائيّ أعراض الإرهاق، والضّعف والعصبيّة ورائحة الفم الكريهة.
النّظام الغذائيّ منخفض الكربوهيدرات. تقليل كمّيّة الكربوهيدرات وتفضيل الزّلال (البروتين) والدّهنيّات | photka, Shutterstock
آدميّون لوجبة الإفطار
ليس الإنسان فقط هو من يمارس أحيانًا تغذية غير متوازنة. يتغذّى الموتى الأحياء (الزّومبي)، الّذين سطع نجمهم منذ عشرات السّنين كوحوش إرهابيّة في أفلام الرّعب، وفي الكتب والمسلسلات التّلفزيونيّة، على نوع واحد من الطّعام- لحوم البشر، بل يقتصر غذاؤها أحيانًا على مُخّ الإنسان.
يعود أصل الموتى الأحياء إلى الدِّيانة الوَدُّونِيّة (الفودو) في هاييتي، حيث وُلِد الاعتقاد بوجود سحر يمكنه إحياء الموتى فاقدي الرّوح وتحويلهم إلى خُدّام خاضعين مطيعين. تغلغلت شخصيّات الموتى الأحياء شيئًا فشيئًا، خلال تسعين سنة مضت، إلى الثّقافة الشّعبيّة، وتغيّروا من عبيد خَنوعين لأسيادهم ومُعرّضين للقتل، إلى الوحوش القاتلة الّتي عهدناها في أفلام الموتى الأحياء. نتخيّلها اليوم كائنات بدون عقل و عدوانيّة بشكل رهيب، ذات أجسام بشريّة متعفّنة وملابس ممزّقة. تتثاقل هذه الكائنات بحركتها عادةً، مفتقرة إلى التّفكير، مدفوعة برغبة لا يمكن السّيطرة عليها لأكل لحوم البشر، وخاصّة مِخاخهم. لقد تغيّرت أسباب ظهور الزّومبي على مرّ السّنين، فأصبحنا نُعزي وجودهم للأشعّة، أو للتّلوّث البيولوجيّ، أو للفيروسات، أو الفطر أو غيرها من الطّفيليّات.
ليس من السّهل معرفة القيمة الغذائيّة لمخّ الإنسان الطّازج، وذلك بسبب الحظر القائم على أكل لحوم البشر في جميع الثّقافات والحضارات. يحتوي مخّ البقر -المقبول أكله- وفقًا لنتائج فحص المكوّنات الغذائيّة فيه، على الزُّلال والدّهنيّات بشكلٍ رئيس. تُشكّل الدّهنيّات من النّوع أوميغا 3، الضّروريّة لتّطوّر الخلايا العصبيّة، جزءًا كبيرًا من مكوّنات المخّ. تساهم الأحماض الدّهنيّة من النّوع أوميغا 3، وفقًا لما هو مُعتقد، في تطوّر مخِّ الجنين، لذا تُوصى النّساء الحوامل بتناولها، على الأقلّ من مصادر مقبولة أكثر. بالمقابل، فإنّ كمّيّة الكربوهيدرات في مخّ البقر قليلة جدًّا.
لقد صادفنا أعلاه نظامًا غذائيًّا فقيرًا جدًّا بالكربوهيدرات. يمكن تفسير جزءٍ من السّلوك الّذي يتميّز به الأموات الأحياء (الزّومبي) بالاعتماد على ما نعرفه عن نظام أتكنز الغذائيّ، وعن أعراضه الجانبيّة، وعن غذاء الزّومبي. يعاني الكثيرون من الزّومبي المعاصرون، مثل أولئك الّذين يظهرون في أفلام "زومبي لاند"، من الضّعف الدّائم والإرهاق؛ عصبيّتهم جليّة- خاصّة وهم جوعىّ، وعادةً ما يكونون جوعى، وهم كائنات يكتنفها التّوتّر؛ وأمّا بالنّسبة لرائحة الفم الكريهة، فمنهم من هو نتن تصدر منه رائحة كريهة جدًّا. قد تكون هذه التّغذية المتطرّفة، على ما يبدو، وسيلة تساهم في تطبيب "مرض الزّومبي" الّذي أصابهم.
يحتوي مخّ البقر على الزّلال والدّهون بشكلٍ خاصّ. في الصّورة مخّ بقرة | Lyudmila Mikhailovskaya, Shutterstock
طُوِّر نظام غذائيّ جديد سنة 1920 يهدف إلى تقليل نوبات التّشنّج الّتي يعاني منها المصابون بالصّرع (الإبيلبسيا). يعتمد هذا النّظام أساسًا على الحقيقة بأنّه، في حال انخفاض الكمّيّة اليوميّة المستهلكة من الكربوهيدرات إلى أقلّ من 50 جرام، يبدأ الجسم بتحليل الدّهون لإنتاج الطّاقة والموادّ المُسمّاة بالكيتونات، الّتي تصل إلى مجرى الدّم، حيث تبيّن أنّ وجودها في الدّم يساهم في منع نوبات التّشنّج، كما أنّها تساهم في تقليل الوزن عن طريق الإحساس بالشّبع. لذلك، يُسمّى هذا النّظام الغذائي-ّالنّظام الكيتونيّ.
يعود الزّومبي ويظهر هنا تارة أخرى. يتغذّى الزّومبي أساسًا على الغذاء الكيتونيّ، إذ أنّهم يأكلون المخّ ولا يأكلون شيئًا غيره، ويتكوّن المخّ من الدّهنيّات والزّلال بشكلٍ رئيس. يمكننا أن نستنتج أنّ الزّومبي يستهلكون الغذاء الكيتونيّ الّذي يساهم في مقاومة مرضهم، ذلك فيما إذا اعتبرنا "الزّومبيّة" نوعًا من أمراض الدّماغ التّنكّسيّة، أو مرضًا عصبيًّا، مثل الصّرع. يتّضح بذلك أيضًا ما الّذي يجبر الزّومبي على أكل أمخاخ البشر!
يبدو أنّ الزّومبي يطبّقون أيضًا كافّة مبادئ الحياة الصِّحّيّة الخمسة الّتي ذُكرت أعلاه: فهم لا يُدخّنون ولا يشربون الكحول، يأكلون طعامًا مفيدًا لصحّتهم، يحافظون على لياقتهم البدنيّة -بأخذ حالتهم الخاصّة بعين الاعتبار-، وحتّى أنّهم يصطادون طعامهم بأنفسهم، كما أنّ نسبة السُّمنة في المجتمع الزّومبيّ منخفضة جدًّا- ذلك ما يتّضح لنا إذا أجرينا "دراسة مبنيّة على مشاهدة الكثير من أفلام الزّومبي". لا عجب إذًا، بوجود هذه المقاييس الصّحّيّة الإيجابيّة لديهم، أن "يرفض الزّومبي الموت"...
يبدو أنّ الزّومبي يطبّقون كافّة مبادئ الحياة الصّحّيّة. زومبي قبالة الحاسوب في المكتب | Pressmaster, Shutterstock
كأس من دم إنسان
ليس الزّومبي هم الكائنات الخياليّة الوحيدة الّتي تتغذّى على بني البشر. يظهر مصّاصو الدّماء، بصورة أو بأخرى، في التّراث الشّعبيّ لغالبيّة الثّقافات البشريّة- الوحوش اللّيليّة الّتي تصطاد الآدميّين وتتغذّى عليهم، خاصّة على دمائهم. يوصَف مصّاصو الدّماء عادةً ككائنات تتمتّع بقوى خارقة للقوّة البشريّة، لها أنياب طويلة، وتستطيع أن تتحوّل أحيانًا إلى خفافيش- المخلوقات الحقيقيّة النّشطة في اللّيل تحت جنح الظّلام. يُعتبَر مصّاصو الدّماء في أوروبا من الأموات الأحياء: أشخاص ماتوا ولكنّهم ما زالوا يطاردون الأحياء.
"دراكولا" هو مصّاص الدّماء الأكثر شهرة، وله الأثر الأكبر في تشكيل صورة مصّاص الدّماء المعاصر،وهو بطل كتابٍ ألّفه روائيّ الرّعب برام ستوكر سنة 1897. تحوّل مصّاصو الدّماء، بإيحاء من هذا الكتاب ومن عدد من قصص سبقته، إلى كائنات جنسيّة جدًّا وشهوانيّة، تتمتّع بقدرة فائقة على الإغراء وبشغفٍ للدّماء. مصّاص الدّماء المعاصر هو كائن شاحب، قويّ جدًّا ولا يمكن قتله -إذ أنّه ليس حيًّا فيُقتَل-؛ إلّا أنّه حسّاس جدًّا لضوء الشّمس، وعرضة للإصابة برموز الطّهارة المسيحيّة، مثل الماء المقدّس والصُّلبان الخشبيّة.
أبرز ما يميّز دم الإنسان، المصدر الوحيد لغذاء مصّاص الدّماء، هو كونه سائلًا في الجسم. الدّم غنيّ جدًّا بالزُّلاليّات، الّتي تشكّل 93 بالمائة من الموادّ الصّلبة الموجودة فيه، وفقير جدًّا بباقي المكوّنات الغذائيّة.
ما هي كمّيّة الدّم الّتي ينبغي أن يشربها مصّاص الدّماء في اليوم؟ يوجد في وجبة دم واحدة (500 ميلي ليتر) من دم الإنسان، وفقًا للحسابات الّتي أجراها ديفيد مارك، البيوكيميائيّ من المعهد التّكنولوجيّ في ماساتشوستس (MIT)، حوالي 450 سعرة حراريّة كبيرة (كيلوكالوري). يحتاج مصّاص الدّماء، بناءً على ذلك، إلى 5 وجبات من الدّم في اليوم، إذا افترضنا أنّه يحتاج حوالي 2500 سعرة حراريّة كبيرة، أي نفس كمّيّة السّعرات الحراريّة الّتي يحتاجها الإنسان الحيّ في اليوم. قد يحتاج مصّاص الدّماء، كما يدّعي مارك، لكمّيّة أقلّ من الدّم لأنّه من المفروض أن يستهلك كمّيّة أقلّ من الطّاقة لأنّه ميت- لا حاجة له بالتّنفّس ولا بالمحافظة على حرارة جسمه.
يعيش مصّاصو الدّماء، في سلسلة الكتب والتّلفزيون "الدّم الحقيقيّ"، جنبًا إلى جنب مع النّاس الأحياء بفضل مُنتج دم اصطناعيّ يُسمّى هو الآخر "الدّم الحقيقيّ". وقد سوّقت القناة التّلفزيونيّة HBO زجاجات حقيقيّة من المشروب للجمهور، لعُشّاق المسلسل خاصّة؛ إلّا أنّه لم يحتوِ طبعًا على المنتج بديل الدّم، وإنّما كان مشروبًا غازيًّا بطعم البرتقال، خاليًا من الزُّلال، ويحتوي على كمّيّات هائلة من الكربوهيدرات والسُّكّريّات. تضرُّ المشروبات المحلّاة بالسُّكّر، مثل "الدّم الحقيقيّ" الحقيقيّ، بالصّحّة: تلحِق ضررًا بالأسنان، وهي أحد العوامل الرّئيسة الّتي تؤدّي إلى السُّمنة، وإلى الإصابة بالأمراض النّاجمة عنها.
لا بدّ لنا أن نذكر، في سياق الحديث عن غذاء مصّاصي الدّماء السّائل، أنّه توجد هنا وهناك نظم غذائيّة بشريّة تعتمد كُلّيًّا على السّوائل. التّغذية عن طريق حقن السّوائل في الوريد مباشرة هي المثال الطّبّيّ البارز على ذلك: محلول غنيّ بالموادّ المغذّية، يُعطى عن طريق تسريبه إلى الدّورة الدّمويّة للمرضى الّذين لا يقدرون، لأسباب مختلفة، على تناولها عن طريق الفم. أمّا المرضى الأصحّاء أكثر، ويُعانون من صعوبات في الابتلاع والهضم، فلهم خيارات عديدة من المُنتَجات الغذائيّة الطّبّيّة الّتي تُسوّق في المتاجر والصّيدليّات، والّتي تعتمد معظمها على مساحيق غنيّة بالموادّ المغذّية، الّتي تُذاب في الماء ويشربها المريض، أو تُعطى له عن طريق أنبوب خاصّ (الزّوندا- الأنبوب الأنفيّ المعديّ). توجد، في مجال حِميات إنقاص الوزن، مجموعة متنوّعة من حميات الرّجيم العصريّة المعتمدة على العصائر، الوهميّة أحيانًا، وكثيرًا ما تكون خطيرة، ولن نتطرّق إليها هنا بالتّفصيل.
مشروب غازيّ خالٍ من الزّلال، لكنّه يحتوي على كمّيّة هائلة من الكربوهيدرات والسُّكّريّات في زجاجة "الدّم الحقيقيّ"- للبيع | Scott Beale / Laughing Squid / Flickr
مصّاص الدّماء الطّائر
ثلاثة أصناف من الخفافيش من الفصيلة الفرعيّة (Desmodontinae)، من ضمنها الخفّاش الشّائع (Desmodus rotundus)، هي الكائنات الحيّة الأقرب لمصّاص الدّماء الخياليّ. يتغذّى الخفّاش الشّائع، كما قريبه الأسطوريّ، و الصّنفان الآخران من الخفافيش، على الدّم، ويتكيّف جسمه مع هذا النّظام الغذائيّ بعدّة طرق.
يصطاد الخفّاش الشّائع في اللّيل، بينما تغطّ فريسته في النّوم العميق. يستخدم الخفّاش آليّة مِلاحةٍ وتنقّلٍ تعتمد على إصدار أمواج صوتيّة ذات تردّدات عالية، لا تقدر غالبيّة الحيوانات على سماعها، وفكّ رموز معالم الحيّز وتضاريسه بناءً على أنماط الأصداء المرتدّة من الأجسام المحيطة (تحديد الموقع بصدى الصوت، Echolocation). يتيح الدّمج بين هذه الحاسّة الفريدة، وبين حِدّة البصر وحاسّة الشّمّ المتطوّرة لدى الخفافيش مصّاصة الدّماء تحديد موقع الفريسة: خاصّةً البقر والغنم والخيل، وغيرها من الثّدييّات كبيرة الحجم، وحتّى الإنسان أحيانًا.
يحدّد الخفّاش، بالاستعانة بمستشعرات الحرارة الموجودة في أنفه، مواقع أوعية الدّم القريبة من الجلد في جسم الفريسة، ثمّ يجرحها جرحًا سطحيًّا باستخدام أنيابه الطّويلة الحادّة، ويلعق الدّم الّذي يسيل منه. لا تستيقظ الفريسة من نومها عادةً لأنّ عضّة الخفّاش ليست مؤلمة بما يكفي لإيقاظها، وتساهم في ذلك المادّة المخدِّرة الموضعيّة الموجودة في لعاب الخفّاش. لا يصرخ الرّجال ولا النّساء، الّذين يتعرّضون لعضّات مصّاصي الدّماء في أفلام الرّعب العصريّة، وقد تكتنفهم أحيانًا حالة من النّشوة، لأنّهم يقعون، على ما يبدو، تحت تأثير مادّة مخدّرة شبيهة بالمادّة المخدّرة الموجودة في لعاب الخفّاش.
يتخثّر الدّم عند حصول الجرح، لكنّ الخفّاش يتخطّى هذا العائق أيضًا، إذ يحتوي لعابه على مادّة مضادّة للتّخثّر، تمنع إغلاق "حنفيّة" الدّم قبل أن يُنهي وجبته.
من التّحدّيات الرّئيسة الأخرى الّتي تواجه مصّاص الدّماء، ضرورة هضم كمّيّة كبيرة من الطّعام السّائل بسرعة، ما يستوجب استجابة الجهاز الهضميّ بشكلٍ أسرع بكثير مقارنةً بهضم الطّعام الصّلب. تطوّرت لدى الخفّاش الشّائع مصّاص الدّماء، دون غيره من الفقاريّات، آليّة فريدة لهذا الغرض. ينقسم الجهاز الهضميّ لدى الخفّاش إلى قسميْن، بِدءًا من المريء. يصل قسم من الدّم إلى المعدة -وهي ليست كبيرة، إذ لا حاجة لتحليل الغذاء- ويواصل القسم الآخر طريقه إلى المعي. يبدأ استيعاب الدّم في الحالتيْن لحظة استهلاكه، بحيث تدخل كمّيّة كبيرة من السّوائل مرّة واحدة إلى جسم الخفّاش.
هيكل الجهاز الهضميّ لدى الخفّاش آكل الحشرات (A)، والخفّاش آكل الثِّمار (B)، والخفّاش مصّاص الدماء (C) | مأخوذ من Federici et al
قد تظهر مشكلة أخرى في هذا المضمار: كيف يتعامل الخفّاش مصّاص الدِّماء مع فائض السّوائل في جسمه، الّتي قد تؤدّي إلى حصول وذمة رئويّة أو حِمل ثقيل على القلب؟ يتخلّص الخفّاش الشّائع من السّوائل الزّائدة بواسطة التّبوّل. قد تبلغ كمّيّة ما يستهلك الخفّاش من الدّم 70 بالمائة من وزن جسمه، وتُتيح له هذه الكمّيّة الطّيران من الموقع قبل أن يتمّ الإمساك به، دون أن يتحطّم بسبب الوزن الزّائد. يدمج الخفّاش مصّاص الدّماء، بلا أدنى شكٍّ، ما بين التّغذية السّليمة والنّشاط الجسمانيّ.
يواجه الخفّاش مصّاص الدّماء أيضًا عددًا لا حصر له من المُلوّثات الّتي تدخل جسمه من دماء فرائسه. لا يمكث الغذاء فترة طويلة في البيئة الحمضيّة في المعدة بسبب سرعة شرب الدّم، الأمر الّذي يضعِف القدرة على إبطال مفعول الملوّثات عند دخولها إلى الجسم. يتمتّع الخفّاش الشّائع مصّاص الدّماء، كغيره من الخفافيش، بقدرة عجيبة على حمل هذه التّلوّثات دون أن يمرض هو منها. يعود ذلك إلى عدّة عوامل، ويعود الفضل في بعض منها لِقدرة الخفافيش على الطّيران: ترتفع درجة حرارة جسم الخفّاش في حالة طيرانه فوق 38 درجة سيلزيوس، كما في حالة المرض؛ كما لا تنجم أعراض مرضيّة عن ردّة فعل الجسم المناعيّة المتوازنة للفيروسات؛ بالإضافة إلى وجود آليّات في خلاياها تُعيق انتشار الفيروسات في الجسم؛ حتّى أنّ الميكروبيوم لديها -مجموعة البكتيريا المعويّة والكائنات الحيّة الدّقيقة الأخرى الّتي تعيش في أجسامها- يساهم، على ما يبدو، في التّعامل مع الفيروسات.
كيف تشرب الخفافيش الدّماء بدون علم الضّحيّة؟
أخلاقيّات الموتى الأحياء
تربط الكثير من الأعمال الفنّيّة الخياليّة بين الغذاء والأخلاق. لا يقتصر تقييم المرء على "ما" يتغذّى عليه، بل على "من" يتغذّى عليه أيضًا. يمكن موازاة هذا الرّبط بالنّقاشات اللّانهائيّة بين أولئك الّذين يدعون إلى التّغذية النّباتيّة والنّباتيّة الصّرفة وبين من يخالفونهم.
يُلقِّب قسم من أبطال رواية مصّاصي الدّماء، "الشّفق"، من تأليف ستيفاني ماير، أنفسهم بـ "النّباتيّين"’ لأنّهم يفضِّلون اصطياد الحيوانات غير الذّكّيّة وشرب دمها، بدلًا من التّعرّض لبني البشر. تجعلهم عادات طعامهم، في أعينهم هم، أفضل وأكثر أخلاقيّة. ويُشار إلى قسم من مصّاصي الدّماء في مسلسل "الدّم الحقيقيّ" بأنهم "الحِسان" لأنّهم يتغذّون على الدّم الاصطناعيّ، أو أنّهم، على الأقلّ، لا يتغذون إلّا على دم الأشخاص الّذين يوافقون على ذلك.
تحوّلت الطّبيبة بطلة المسلسل التّلفزيونيّ "آي زومبي" (iZombie)، الّذي يُبث في نتفلكس، إلى زومبي بسبب عضّة. بدأت بعدها بالعمل كأخصائيّة علم الأمراض في غرفة الموتى، وتمكّنت بذلك من أكل المِخاخ كي تبقى على قيد الحياة. ساعدت البطلة، ما بين هذا وذاك، بفضل مهاراتها الفريدة كونها زومبي، الشّرطة في القبض على القتلة. عدا عن أنّها وجدت طريقة تتجنّب بموجبها الإضرار بِالآدميّين، فقد ساهمت في خدمة الإنسانيّة وتحقيق العدالة لضحايا الجريمة.
تمامًا مثلنا، فإنّ المخلوقات الخياليّة أيضًا تتذبذب ما بين الجوع للطّعام اللّذيذ المُشبع والممتع وبين الرّغبة في الحفاظ على الأخلاق، والتّصرّف كما يتصرّف الأشخاص المتحضّرون. يتجسّد هذا الصّراع جيّدًا في نظرة شخص ما تجاه من هو أصغر منه: هل يوجد ما هو أصعب من مقاومة الحلويّات و"الوجبات السّريعة" اللّذيذة؟ إنّه وبكلّ تأكيد الوقوف أمام صغار يرغبون بها- وتجاهل رغبتهم.
نحن نتمزّق بين شغفنا للأكل اللّذيذ الممتع وبين الرّغبة في الحفاظ على الصّحّة. هل لحم الآدميّين هو بمثابة وجبات الزّومبي السّريعة، أم هو غذاؤها المفضّل؟ في الصّورة مجموعة منوّعة من الطّعام غير الصّحّيّ | New Africa, Shutterstock
أكل المخاخ وشرب الدّماء هو القتل عن سبق الإصرار بعينه
أصبحت، على سبيل المثال، جيسيكا من مسلسل "الدّم الحقيقيّ"، مؤخّرًا مصّاصة دماء، وهي ترزح تحت الوِصاية "الأبويّة" لِمصّاص دماء اسمه "بِل". يُمثّل بِل مصّاصي الدّماء "الجيّدين" الّذين يتجنّبون دماء البشر، ويكتفون بالبديل الاصطناعيّ قليل الجودة. تثور ثائرة جيسيكا غضبًا وتتصرّف كالطّفلة الصّغيرة عندما يمنعها بِل، لدوافع أخلاقيّة، من شرب دم الإنسان. لكنّها تستطيع، على الرّغم من ذلك، مقاومة دوافعها القاتلة. إنّ محاولاتها الانضباط والتّقيّد بمعايير الشّخصيّات الأخرى الأخلاقيّة مثيرة للاهتمام والتّعاطف. من الصّعب علينا نحن أيضًا الامتناع عن الأكل لذيذ الطّعم قليل الفائدة وغير الصّحّيّ، كما يعاني من يختار النّظام الغذائيّ النّباتيّ في طعامه من الامتناع عن تناول الغذاء الّذي يحسبونه لا أخلاقيًّا.
لا يأكل الآدميّون الحقيقيّون مخاخ غيرهم من بني البشر ولا يشربون دماءهم. يفضّل النّاس الّذين يتجنّبون إيذاء غيرهم بغذائهم حِمية غذائيّة خالية من اللّحوم، أي الحمية النّباتيّة، أو أنّهم يتّبعون الحمية النّباتيّة الصّرفة في غذائهم، ولا يأكلون أيّ مكوّن غذائيٍّ من مصدرٍ حيوانيّ.
إلى جانب حسنات الحمية النّباتية وأفضليّاتها الصّرفة من النّاحية الأخلاقيّة، فإنّه من الصّعب على من يتّبعها في طعامه، الحصول على المكوّنات الّتي تحتوي عليها لحوم الحيوانات وغيرها من الغذاء حيوانيّ المصدر، الأمر الّذي يتطلّب تخطيطًا بالغ الدِّقّة. تفتقر الحمية النّباتيّة الصّرفة للأحماض الأمينيّة الضّروريّة، والفيتامينات جيّدة الذّوبان في الدُّهنيّات، وللحديد. قد تفتقر الحمية النّباتيّة الصّرفة أيضًا للفيتامين B12 الضّروريّ، ويوصى أولئك بتناول مكمّلات B12 بشكلٍ دائم، أو استهلاك الفيتامين من مصادر أخرى.
قد تعود التّغذية الغنيّة بالمصادر النّباتيّة، مثل حمية البحر المتوسّط، بفائدةٍ صحّيّة معيّنة على من يعتمدها في طعامه. ترتبط هذه الحمية مثلًا بتقليل خطر الإصابة بالسّكتة الدِّماغيّة وتطوّر أمراض القلب والأوعية الدّمويّة. لا يأكل النّباتيّون الطّعام المُصنّع أيضًا، الّذي تبيّن أنّه يزيد قليلًا من خطر الإصابة بسرطان الأمعاء الغليظة. يجب، مع ذلك، ألا نفصل بين نظام الغذاء النّباتيّ وبين النّواحي الأخرى في نمط حياة الكثير من النّباتيّين، مثل زيادة الوعي الصّحّيّ، بما فيه الامتناع عن التّدخين، وأداء النّشاط الرّياضيّ بانتظام.
لا عجب إذًا في أن تأخذ التّغذية، الّتي تشكِّل مُكوّنًا هامًّا ومركزيًّا في حياتنا، دورًا مركزيًّا أيضًا في ثقافتنا وحضارتنا، فقد اندمجت في قصص الوحوش الّتي تطاردنا وتريد أكل أمخاخنا وشرب دمائنا. يبدو أنّ التّغذية السّليمة الّتي تتناسب مع احتياجاتنا، في نهاية المطاف، هي حسنة للجميع- الأحياء والموتى الأحياء معًا.
كاتبة المقال هي طبيبة اختصاصيّة في الطّبّ الباطنيّ وأمراض الجهاز الهضميّ، وهي تُلقي المحاضرات في مؤتمرات العلوم الشّعبيّة حول مواضيع ذات صلة.