يتسارع الحديث عن قضايا التّلوّث البيئيّ في العقود الأخيرة، إلّا أنّ وعي البشريّة بهذه المشكلة يعود إلى آلاف السّنين، إذ أدرك سكّان الإمبراطوريّات القديمة آثار التّلوّث وشرعوا بتقديم الحلول المتاحة للحدّ من عواقبه.

مع تطوّر المجتمعات البشريّة، أدّى الانتقال من القرى الزّراعيّة الصّغيرة إلى المدن الكبيرة إلى تغيّرات جذريّة في المجالات الثّقافيّة، التّكنولوجيّة، البيئيّة وغيرها من نواحي الحياة المختلفة. تسبّبت التّجمّعات السّكنيّة المكتظّة في مساحات محدودة جنبًا إلى جنب مع الحياة الحضريّة المتمثّلة في تطوير صناعات مختلفة مثل الغذاء والملابس، إلى ازدياد مصادر التّلوّث الّتي أثّرت – وما زالت تؤثّر – على البيئة وعلى الكائنات الحية دون استثناء. وعلى الرّغم من الاعتقاد السّائد أنّ مشاكل التّلوّث البيئيّ كانت وليدة الثّورة الصّناعيّة وأنّ البشر لم يولوا موضوع التّلوّث اهتمامًا إلّا في القرن العشرين، إلّا أنّ الشّواهد التّاريخيّة تشير إلى عكس ذلك، إذ بدأ الانشغال بتأثيرات التّلوّث وباتّخاذ خطوات للحدّ منه ومنع تفاقمه منذ العصور القديمة، أي منذ ظهور الكتابة حتّى سقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة.


رواسب الطّين الّتي  تراكمت داخل أنابيب الرّصاص في روما تتيح للباحثين تتبّع تطوّر المدينة ومستويات التّلوّث  فيها | تصوير: Chris 73/Wikimedia Commons ‏CC BY-SA 3.0

في البحر والبر 

تظهر أدلّة على التّلوّث في أراضي الإمبراطوريّات القديمة، كاليونان وروما، بالتّوازي مع تغيّرات بيئيّة مثل إزالة الغابات وتوسّع النّشاط الزّراعيّ. وقد كشفت دراسة نُشرت مؤخّرًا عن وجود تلوّث بالرّصاص في مياه بحر إيجه، الواقع بين اليونان وتركيا الحاليّة، تعود أصوله إلى نشاط بشريّ وقع قبل نحو 5,000 عام. وبالتّزامن مع ازدهار الإمبراطوريّة الرّومانيّة قبل نحو 2,600 سنة، وتوسّع صناعة التّعدين، ارتفع التّلوّث النّاجم عن الرّصاص بشكل ملحوظ، وبدأ تأثيره يطال اليابسة قبل حوالي 2,200 عام، كما وضّحت الدّراسة. 

وتميّزت فترة الحكم الرّومانيّة بحدوث تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة مفصليّة، نشأت بسبب التّقدّم التّكنولوجيّ الّذي شهدته تلك المرحلة، وأسهمت هذه التّحوّلات بدورها في دفع عجلة التّطوّر التّكنولوجيّ.  وكانت عمليّات استخراج المعادن ومعالجتها من أهمّ التّقنيّات التّكنولوجيّة، حيث أدّت إلى إدخال استخدام المعادن في شتّى مجالات الحياة المختلفة. تعدّ عمليّة التّعدين، أو استخراج المعادن، عمليّة معقّدة، وقد تبيّن اليوم أنّها تسبّبت بتلوّث التّربة والمياه. حتّى الحقبة الرّومانيّة، كان تأثير هذا التّلوّث محصورًا في المناطق القريبة من مواقع النّشاط الصّناعيّ، ولكن في أعقاب ازدياد الاعتماد على المعادن خلال تلك الفترة، توسّعت رقعة التّلوّث لتطال المناطق البعيدة عن المدن أيضًا. 

شكّل الرّصاص مصدر التّلوّث الأساسيّ في العصر الرّومانيّ، إذ يعدّ الرّصاص معدنًا ليّنًا وسهل التّشكيل، ممّا يفسّر استخدامه الشّائع في تلك الحقبة. كما وكانت الفضّة من المعادن واسعة الانتشار آنذاك، وكانت تُستخرَج من معدن يُعرَف باسم "غالينا" (Galena)، وهو مركّب يحتوي في معظمه على الرّصاص، ممّا يعني أنّ تعدين الفضّة ومعالجتها كان بدوره سببًا إضافيًّا لتلوّث البيئة بالرّصاص. كما واستُخدم الرّصاص في تصنيع كلّ من شبكات توزيع المياه في المدن الرّومانيّة وأدوات العمل وأواني الطّعام.

يُصنّف الرّصاص اليوم ضمن قائمة المعادن الثّقيلة السّامّة، لأنّ التّعرّض حتّى لكمّيّات ضئيلة منه قد يُلحق أضرارًا جسيمة لعدد من أجهزة الجسم، من بينها الجهاز العصبيّ، الجهاز المناعيّ والعضلات. ولهذا تُعتبر بقايا الرّصاص في البيئة من الملوّثات الخطيرة. ويذهب كثيرون إلى الاعتقاد أنّ الاستخدام المكثّف للرّصاص قد أدّى، بشكل أو بآخر، في سقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة.


أدّت عمليّات  تعدين المعادن ومعالجتها إلى تلويث مياه البحر أيضًا. ساحل بحر إيجه، حيث تمّ رصد تلوّثات بالرّصاص | تصوير: Nefeli Kavvada/Unsplash

تُدفئ، تُضيء – وتلوّث

لم يكن الرّصاص مسبّب التّلوّث الوحيد في العصور القديمة، فقد كانت ظاهرة تلوّث الهواء من الظّواهر المعروفة بسمعتها السّيّئة بين سكّان الإمبراطوريّة الرّومانيّة، فقد وصف العديد هذه الظّاهرة في كتاباتهم، بينما شرع البعض في سنّ القوانين الّتي تحدّ من انتشارها. 

بدأ البشر باستخدام النّار بهدف التّدفئة والإنارة منذ ما يقارب المليون عام. حتّى اختراع الكهرباء، شكّلت النّار المصدر الرّئيسيّ للطّاقة داخل المنازل، حيث استُخدمت لأغراض التّدفئة والطّهي والإضاءة، وكان الاعتماد فيها على موادّ قابلة للاحتراق مثل الخشب وروث الحيوانات. ورغم أنّ حرق الخشب والفحم للاستخدام المنزليّ لم يعد شائعًا في البلاد، ويقتصر غالبًا على البيوت الّتي تحتوي على مدافئ (كمدافئ الحطب أو الفحم)، إلّا أنّ هذه الوسائل ما زالت شائعة  لأغراض الطّهي والتّدفئة في كثير من مناطق العالم. رغم ما يصاحب إنتاجها من تلوّث. أسهم استخدام الكهرباء في إبعاد مصادر التّلوّث النّاتج عن احتراق الفحم عن المناطق السّكنيّة، غير أنّ المشكلة لم تُحلّ من جذورها؛ إذ إنّ كلّ عمليّة حرق لمادّة ما بهدف إنتاج الطّاقة – وخصوصًا الفحم – تُعدّ مصدرًا لتلوّث الهواء.

تنتج الحرائق، وخاصّة تلك الّتي تحدث في الأماكن المغلقة، كمّيّات هائلة من الدّخان والسِّنَاج، والّتي ألحقت بدورها أضرارًا جسيمة بالبيئة وصحّة السّكّان في العالم القديم. وقد أثبتت إحدى الدّراسات صحّة هذه الفرضيّة، حيث قام الباحثون بتحليل مومياوات وفحص رئاتها، وقد تبيّن وجود تراكم لجزيئات الكربون في الرّئتين، بدرجة أدّت إلى تشكّل بقع سوداء واضحة عند تشريح الجثث. كانت عمليّات الحرق جزءًا لا يتجزّأ من النّشاط اليوميّ في الحياة المنزليّة آنذاك، ممّا جعلها واسعة الانتشار، إلّا أنّ آثارها لم تقتصر على من أشعل النّار فحسب، بل اتّسعت لتطال كائنات حيّة أخرى. بالإضافة إلى الاستخدامات المعروفة، فقد اعتاد الإنسان في القدم على استخدام النّار وسيلة لطرد الحشرات، وبالرّغم من نجاح هذه الطّريقة، إلّا أنّ النّتائج الصّحّيّة كانت وخيمة، إذ أسهم استنشاق الدّخان في نشوء أمراض مختلفة.

يعدّ الاشتعال تفاعلًا كيميائيًّا بين الأوكسجين، الموجود عادة في الهواء، وبين مادّة قابلة للاشتعال. وعندما تكون نسبة الأوكسجين منخفضة مقارنةً بكمّيّة المادّة المشتعلة، كما هو الحال في المنازل الصّغيرة أو المغلقة، يحدث تفاعل احتراق جزئيّ، الّذي يؤدّي إلى انبعاث أوّل أكسيد الكربون والسِّناج – وهما من الملوّثات الضّارّة بالبيئة وبصحّة الإنسان. يُصنّف أوّل أكسيد الكربون على أنّه غاز سامّ، في حين يُعدّ السِّناج – الّذي يظهر على هيئة دخان أسود متصاعد من النّار – من الجسيمات المعلّقة، أي مزيج من الجسيمات الصّلبة وقطرات السّوائل الدّقيقة العالقة في الهواء، ويؤدّي استنشاقها الي حدوث اضطرابات في الجهاز التّنفّسيّ. يعدّ التّركيز المرتفع للجسميات المعلّقة من علامات التّلوّث الجوّيّ. ونظرًا لاعتماد البيوت في العصور القديمة على الاحتراق كوسيلة يوميّة للتّدفئة والطّهي، فقد شكّلت الجسيمات المعلّقة المصدر الأساسيّ لتلوّث الهواء في تلك الأزمنة.

 في عصرنا الحاليّ، بدأت العديد من الدّول المتقدّمة بسنّ قوانين "الهواء النّقيّ" الّتي تهدف إلى الحدّ من الانبعاثات الملوّثة للهواء، أمّا في العصور القديمة، ومن خلال الوثائق التّاريخيّة الّتي تعود إلى روما ومنطقة بلاد الشّام في تلك الحقبة، فقد عملت الامبراطوريّات على إبعاد مصادر التّلوّث عن مراكز المدن، نظرًا لكون العزل أو التّوزيع المكانيّ للملوّثات من أكثر الوسائل المتاحة آنذاك. على سبيل المثال، يشير فيتروفيوس – المهندس المعماريّ والمفكّر الرّومانيّ الّذي ألّف كتبًا عن تاريخ العمارة والهندسة في العصر الرّومانيّ – إلى أهمّيّة مراعاة اتّجاه الرّياح عند تخطيط المدن وبنائها، بهدف منع تراكم الدّخان والأبخرة السّامة النّاتجة عن الأنشطة المختلفة داخل المدينة. ومن هنا يتّضح أنّ بعض أشكال الأبخرة والغازات كانت معروفة آنذاك بضررها وسُمّيّتها، وقد جرت محاولات – على الأقلّ من حيث المبدأ – لتقليل تعرّض السّكّان لها.


المال يتكلّم: لقد ارتبط سكّ النّقود الفضّيّة  في العصور القديمة بتلوّث بيئيّ كبير. الكنز الّذي  عُثر عليه في بولندا في القرن الثّامن  عشر| Gabinet Numizmatyczny D. Marciniak, CC-BY-3.0

المشكلة ما زالت قائمة

 إضافة لما ذُكر أعلاه، كان تلوّث التّربة بسبب أنظمة الرّيّ من أحد أبرز التّحدّيات الّتي واجهت الإنسان في العصور القديمة، خصوصًا مع تطوّر الزّراعة وبدايات التّحضّر. في الإمبراطوريّة السّومريّة، وهي من أولى الحضارات الّتي نشأت في تاريخ البشريّة، وحكمت المنطقة ما بين نهري دجلة والفرات في العراق المعاصر، استُخدمت تقنيّات الرّيّ لأغراض الزّراعة والبستنة، لكنّ هذه الممارسة أدّت إلى تشبيع التّربّة بالمياه وارتفاع منسوب المياه الجوفيّة، ما تسبّب في إذابة الأملاح المتراكمة في التّربة، وأدّى إلى زيادة درجة قلويّة الأرض. وفي حالة تبخّر المياه أو تسرّبها، كانت تتشكّل طبقة رقيقة من الأملاح على سطح الأرض، ممّا يؤدّي إلى تقليل نفاذيّة التّربة. على الرّغم من أنّ هذه العمليّة لا تؤدّي إلى انبعاث موادّ سامّة للتّربة أو للهواء، إلّا أنّها تعدّ من الأمثلة على التّدخّل البشريّ الّذي أثّر على البيئة. ويرجّح الكثير من الباحثين أنّ هذه المشكلة كانت أحد أسباب انهيار الحكم السّومريّ، اذ لم تنجح الإمبراطوريّة في تطوير أنظمة زراعيّة مستدامة. 

أصبح من الواضح، أنّ إبعاد مصادر التّلوّث عن التّجمّعات السّكنيّة الكبيرة، قد يساعد في تقليل الأضرار الصّحّيّة على سكّان المنطقة، لكنّه لا يمنع التّلوّث. وفي المقابل تمّ تطوير العديد من التّقنيّات الّتي تسهم في الحدّ من التّلوّث، إذ تعتمد هذه التّقنيّات على عمليّات كيميائيّة بديلة تهدف إمّا إلى تقليل كمّيّة الموادّ المنبعثة، أو إلى تحويلها إلى مركّبات أقلّ ضررًا للبيئة. على سبيل المثال، تُزوَّد محطّات توليد الطّاقة والسّيّارات الحديثة بمحوّلات حفّازة، وهي أجهزة تعمل على ربط الموادّ السّامّة كيميائيًّا ومنع انبعاثها إلى الهواء خلال عمليّة حرق الوقود. وفيما يخصّ معالجة مياه الصّرف، تمّ استحداث تقنيّات كيميائيّة وبيولوجيّة، تعتمد على استخدام البكتيريا لإزالة الموادّ الضّارّة من المياه وتنقيتها.

ورغم هذه التّطوّرات، لا تزال المعادن الثّقيلة من أبرز مصادر التّلوّث، ويظلّ تلوّث الهواء أحد أخطر التّحدّيات البيئيّة في عصرنا، إذ يتسبّب في ملايين الوفيات سنويًّا حول العالم. ومن المؤكّد أنّ هذه القضايا تؤثّر على  صحّة الإنسان وعلى كوكب الأرض بأكمله. لكنّها، رغم طابعها المعاصر، ليست وليدة اليوم، بل تعود أصولها إلى العصور القديمة؛ إذ شكّل التّلوّث البيئيّ تحدّيًا للإنسان منذ العصور القديمة، وخلّف وراءه آثارًا تكشف عن أنشطته وتدخّلاته في البيئة قبل آلاف السّنين.

 

0 تعليقات