لماذا تزداد درجة حرارة غليان الماء عند إذابة ملح الطعام فيه، وتنخفض درجة حرارة تجمّده؟ وما هي العلاقة بين قِدْر المعكرونة والانتروبيا؟

يظنّ البعض أنّ الهدف من إضافة الملح إلى ماء طهي المعكرونة هو رفع درجة حرارة غليان الماء، وتعجيل نضج المعكرونة. يبدو هذا الاعتقاد كأنّه يستند إلى "تفسير" علميّ، إلا أنّ الواقع ليس كذلك. يحتاج رفع درجة حرارة غليان لتر واحد من الماء مقدار نصف درجة سيلزيوس، إلى إذابة حوالي 30 غرام من ملح الطعام فيه، ما يجعل المعكرونة عسيرة للأكل! وكيف إذا أردنا رفع درجة حرارة غليان الماء بضع درجات؟ الحقيقة إذًا هي أنّ الهدف من إضافة الملح إلى المعكرونة هو تحسين طعمها!

سوف نحاول في هذه المقالة تفسير سبب ارتفاع درجة حرارة غليان الماء، وانخفاض درجة حرارة تجمّدِه عند إذابة الملح فيه.


لماذا تنخفض درجة حرارة تجمّد الماء عند إضافة الملح إليه؟ نَثر الملح على الرصيف لِصهر الثلج والجليد | Shutterstock, J.A. Dunbar

الماء والملح ولغة الكيميائيّين

دعونا نستعيد أوّلًا المفهوم الكيميائيّ لمصطلحات الماء والملح. يتكوّن جزيء الماء من ذرتَيْ هيدروجين، H، مربوطتين إلى ذرّة أكسجين، O، واحدة، ورمز جزيء الماء باللغة الكيميائيّة هو H2O. ويشير مصطلح الملح إلى مجموعة كبيرة من المركّبات المكوّنة من عنصر فلزيّ و عنصر لا فلزيّ. الاسم الكيميائيّ لملح الطعام هو كلوريد الصوديوم (الذي يشكّل حصّة الأسد من المركبات في ملح الطعام) ورمزه الكيميائي NaCl. الصوديوم، Na، هو العنصر الفلزيّ والكلور، Cl، هو العنصر اللافلزيّ. سنتطّرق فيما يلي إلى كلوريد الصوديوم بأنّه هو الملح (ملح الطعام) الذي يضاف إلى الماء. ينتج محلول مائيّ عند إضافة الملح إلى الماء وخلطها جيّدًا. يتفكّك كلوريد الصوديوم، NaCl، إلى أيونات (جسيمات تحمل شحنات كهربائيّة) صوديوم موجبة الشحنة الكهربائيّة وأيونات كلور سالبة الشحنة الكهربائيّة.


يتحلّل NaCl إلى أيونات صوديوم موجبة الشحنة الكهربائيّة وأيونات كلور سالبة الشحنة الكهربائيّة عند إضافة الملح إلى الماء. يوضّح الرسم ذوبان الملح في الماء | Shutterstock, SANDIP NEOGI

دعونا نتعرّف على مصطلح ضغط البخار أيضًا. تتصاعد جسيمات المادة السائلة من سطح السائل (تتبخّر) في درجات حرارة أقلّ من درجة حرارة الغليان، وليس في درجة حرارة الغليان فحسب. تتبخّر جزيئات الماء، مثلًا، بنسب متفاوتة عندما تكون درجة حرارة الماء أقلّ من درجة غليانه، 100 درجات سيلزيوس. تُشكّل جزيئات الماء الغازيّة المتصاعدة من السطح، ضغطًا. يبقى هذا الضغط أقلّ من مقدار الضغط الجوّيّ، الذي يؤثّر على سطح الماء ما دامت درجة حرارة الماء أقلّ من درجة غليانه. يتساوى ضغط بخار الماء مع الضغط الجوّيّ - الناجم عن ثقل هواء الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة - عندما تصل درجة حرارة الماء إلى درجة غليانه، ويزيد ضغط البخار عن الضغط الجوّيّ إذا زادت درجة حرارة الماء عن درجة غليانه. يمكن التعبير عن هذه الحالة بما يلي: درجة حرارة الغليان (في النظام المغلق) هي درجة الحرارة التي يتساوى فيها عدد جزيئات الماء التي تنتقل إلى الحالة الغازيّة من سطح السائل (التبخّر) في وحدة زمن، مع عدد جزيئات الماء التي تعود من الحالة الغازية إلى سطح السائل (التكثّف).

يحتوي سطح الماء المذاب فيه الملح على أيونات الصوديوم وأيونات الكلور، بالإضافة لأيونات الفلزات الأخرى المُذابة فيه بطبيعة الحال، (مثل الصوديوم والكالسيوم والمغنسيوم والزنك). تحتاج جزيئات الماء المرتبطة بأيونات الصوديوم وأيونات الكلور عن طريق التجاذب الكهربائيّ، وهو ارتباط أقوى من الارتباط بين جزيئات الماء وبين بعضها البعض، إلى كمّيّة متزايدة من الطاقة كي تستطيع التخلّص من سطح السائل والإفلات إلى الحالة الغازيّة. ينجم عن ذلك انخفاض وتيرة تبخّر جزيئات الماء وانخفاض ضغط البخار في درجة حرارة 100 سيلزيوس، ممّا يستوجب رفع درجة حرارة الماء فوق 100 سيلزيوس، حتّى يتساوى ضغط البخار مع الضغط الجوّيّ.  

لا يتعلّق، مقابل ذلك، انخفاض درجة حرارة تجمّد الماء المضاف إليه الملح بضغط البخار. تُعيق أيونات الصوديوم وأيونات الكلور المرتبطة بجزيئات الماء في المحلول المائيّ للملح، اقتراب جزيئات الماء من بعضها البعض وانتظامها اللازمين للحصول على جليد في الحالة الصلبة. "تنجح" جزيئات الماء بالانتظام في الهيكل البِلّوريّ المرغوب، المُسمّى بالجليد، عندما تكون درجة حرارة المحلول، حسب تركيز الملح فيه، تحت الصفر المئويّ (سيلزيوس)، هي درجة تجمّد الماء النقيّ عند وحدة ضغط جوّيّ واحدة. هذا ما يفسّر نثر الملح في الطرقات في البلدان التي تهبط فيها درجات الحرارة نحو الصفر المئويّ وأقلّ (من ضمنها مدينة القدس، أحيانًا)، بهدف منع تراكم الجليد عليها، إذ يبقى الماء الذي يُنثر عليه الملح في حالته السائلة في درجة حرارة الصفر المئويّ (وحتّى أقلّ من ذلك)، بسبب انخفاض درجة التجمد. هذه هي الفيزياء (الطبيعة) التي تقف من وراء الظاهرة.


تحتاج جزيئات الماء للمزيد من الطاقة، كي تفلت من سطح الماء السائل وتنتقل إلى الحالة الغازيّة (تقلّ وتيرة التبخّر)، لأنّها مرتبطة بأيونات الملح ارتباطًا كهربائيًّا قويًّا. رسم توضيحيّ يصف غليان الماء بوجود الملح فيه وبغيابه. | Shutterstock, ktz

ازدياد الانتروبيا

تُسمّى هذه الظاهرة الملفِتة - تغير درجات حرارة غليان الماء وتجّمده بسبب وجود مادة مذابة فيه - "الخاصّيّة التجميعيّة" (أو التركيزيّة أو الترابُضيّة)، Colligative Property باللاتينيّة. تتعلّق هذه الظاهرة بِتركيز المادة المذابة في المحلول ولا تتعلّق بنوعيتها. كان فيلهلم أوستوِالد (Ostwald)، الكيميائيّ الألمانيّ، أوّل من طبع هذا المصطلح واصفًا الخواصّ التجميعيّة في أواخر القرن التاسع عشر. 

يرتبط التفسير الثيرموديناميكيّ لِلخواص التجميعيّة بمصطلح الانتروبيا، التي تصف عدد الحالات المجهريّة (الميكروسكوبيّة) الممكنة - المُتاحة - في الجهاز، وهي بمثابة مقياس للانتظام (الافتقار إلى الانتظام) السائد في هذا الجهاز. يمكن توضيح هذه الخاصّيّة (الانتروبيا) من خلال التطرّق إلى عدد الطرق التي يمكن أن نرتب بها ثلاثة الأرقام 1، 2، 3 - ستّة طرق وهي: 1،2،3 وَ 1،3،2 وّ 3،1،2 وّ 3،2،1 وَ 2،1،3 وَ 2،3،1 - مقابل طريقتين فقط لترتيب الرقمين 1، 2 - 1،2 وَ 2،1 - فَالانتروبيا أعلى في الحالة الأولى. كذلك هو الحال بما يتعلّق بالماء والملح: انتروبيا الجهاز الذي يحتوي على المحلول المائيّ للملح، الذي تنتشر فيه أيونات الصوديوم وأيونات الكلور بين جزيئات الماء، أعلى من انتروبيا الجهاز الذي يحتوي على الماء النقيّ. 

ينصّ قانون الثيرموديناميكا الثاني على أنّ انتروبيا الجهاز المغلق، أي الجهاز الذي لا يتبادل الموادّ مع بيئته المحيطة - تميل إلى أن تبلغ أقصى قيمة متاحة، ويزيد الاستقرار الثيرموديناميكيّ لِلجهاز مع ازدياد الانتروبيا خاصّته، ويعني ذلك ازدياد صعوبة إجراء تغيير على حالة هذا الجهاز. "يرغب" الكون الذي نشكِّل نحن جزءًا منه أن يتواجد بالقدر الأقصى الممكن من الفوضى. تزداد انتروبيا الجهاز عند إضافة الملح إلى الماء الموجود داخل كأس مغطاة (جهاز مغلق)، ممّا يجعله أكثر استقرارًا من الناحية الثيرموديناميكيّة، وتتجلّى هذه الزيادة في الاستقرار بارتفاع درجة حرارة غليان الماء، وانخفاض درجة تجمّده وغيرها من الظواهر.  


تتطرّق الانتروبيا إلى عدد الحالات المجهريّة (الميكروسكوبية) المتاحة للجهاز، وهي تشكّل، لذلك، مقياسًا لِمدى افتقار النظام في الجهاز رسم توضيحيّ يصف جهازًا له انتروبيا منخفضة (إلى اليسار) وجهازًا له انتروبيا عالية.

عودة إلى قِدر الماء 

لا يكتمل الأمر دون تقدير كمّيّة الملح التي تؤثّر على خواصّ الماء، ومدى تأثيرها. يُقاس تركيز المادّة المُذابة في المحلول عادةً بوحدة المولار (Molar)، وهي تُعبّر عن عدد جُسيمات المادّة المذابة في لتر واحد من المحلول. وتُعبّر المولالية (Molality)، الأقلّ استخدامًا، عن النسبة بين عدد جسيمات المذاب وكتلة المادّة المُذيبة (الماء في السياق الذي نحن بصدده) بالكيلوغرامات. تُعبّر المولارية عن عدد جسيمات المذاب الموجودة في لتر واحد من المحلول (المُذيب والمُذاب معًا)، بينما تعبّر المولالية عن النسبة بين المُذيب و المُذاب. 

يمكن حساب مقدار التغيّر في درجات حرارة التجمّد والغليان، الناتج عن إذابة الملح في الماء بواسطة معادلة مناسبة. تشير هذه المعادلة إلى وجوب ضرب مولالية الملح المُذاب بثابت الارتفاع في درجة حرارة الغليان (الثابت الإيبولا وسكوبي = Ebullioscopic) الخاصّ بالمُذيب، وذلك لحساب مقدار الارتفاع في درجة حرارة الغليان، وضرب المولالية بثابت التجمّد (الثابت الكريوسكوبي = Cryoscopic) لحساب مقدار الانخفاض في درجة حرارة التجمد. لكلّ مادة وثوابتها الخاصّة بها. نضرب النتيجة، أخيرًا، بثابت آخر يدعى مُعامِل فانت هوف (van ‘t Hoff) والذي يمكن حسابه للمواد المُذابة المختلفة. 

عودة إلى المثال الذي أوردناه في أوّل المقالة: مولاليّة المحلول المائيّ الذي يحتوي على 30 غرام من الملح تساوي 0.513 (دون التطرّق إلى وحدات المولاليّة)، وثابت الارتفاع في درجة الغليان الخاصّ بالماء المذيب يساوي 0.512، أمّا معامل فانت هوف لِلملح المذاب فهو 2 (لأنه يحتوي على أيونين)، فيكون حاصل ضرب ثلاثة الأرقام: 0.526 = 0.513 × 0.512 × 2، أي أنّ مقدار ارتفاع درجة حرارة غليان الماء نتيجة لإذابة 30 غرام من الملح في لتر منه هو 0.526 درجة فقط. لا علاقة إذًا بين المعكرونة والثيرموديناميكا، لكن لا مانع من التعلّم من الادّعاءات الخاطئة.

 

0 تعليقات