ما الّذي يحدث بالضبط في المنطقة البينيّة بين الواقع اليوميّ المألوف والعالم الغريب للجسيمات الصغيرة؟

تُظهِر العديدُ من المفارقاتِ محدوديّةَ اللغة البشريّة وتشويه التعريفات الّتي نصنعها لأنفسنا. للنظر على سبيل المثال إلى مفارقة الكومة. ذرّة رمل واحدة لا ينبغي لها أن تُسمّى "كومة"؛ حتّى مجموعة صغيرة من الذرّات لا تُعتبر كومة، وإضافة ذرّة رمل أخرى في كلّ مرّة لن يغيّر التعريف. إذن ما هي الكومة على أيّ حال؟ أي أين يقع الحدّ الفاصل بين مجموعة من الذرّات وبين الكومة؟

يمكن أيضًا طرحُ سؤال مشابه في الفيزياء. عادةً ما يتمّ تقسيم الفيزياء الّتي نعرفها اليوم إلى نظريّتين أساسيّتَين، مع اختلافٍ ملحوظ في طبيعة الظواهر الّتي نراها في كلٍّ منهما. تتعامل الفيزياء التقليديّة (الكلاسيكيّة) مع سلوك الأجسام الكبيرة، مثل الكرات أو البَكرات أو الأقمار الصناعيّة. يمكن وصف حركة هذه الأجسام باستخدام قوانين نيوتن الثلاثة للحركة، الّتي تُشكِّل أساس الميكانيكا الكلاسيكيّة. من ناحية أخرى، على النطاق الضيّق، في عالم الجسيمات دون الذرّيّة، تعمل قوانين ميكانيكا الكمّ ومشتقّاتها. إنّه عالم غريب وغير بديهيّ، حيث تظهر ميزات متموّجة مثل التداخل، والنفق الكموميّ والتجاوز.

لكن إذا كان هناك فرق كبير بين الفيزياء الكلاسيكيّة وفيزياء الكمّ، وبين الماكرو والميكرو، فأين الحدود بينهما؟ متى تصبح مجموعة من جسيمات الكمّ كرةً تخضع لقوانين نيوتن؟

صاغ الفيزيائيّ الهولنديّ نيكو ڤان كامپن (van Kampen) مصطلح "فيزياء الميزوسكوب"، من كلمة "ميزو" - "وسط" في اليونانيّة، في سنة 1981م، من أجل وصف هذا العالم الوسيط، بين الكلاسيكيّ والكموميّ. نتحدّث عن عالم رائع بحدّ ذاته، يجمع أحيانًا بين الأسس الكلاسيكيّة والكموميّة في نماذجه، وأحيانًا يتّضح أنّه لا يمكن لأيّةٍ من هذه النظريّات وصف هذا المجال الوسيط بالشكل الصحيح.

שבב מחשב עם רכיבים ממוזערים | צילום: CHRISTIAN LAGEREK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
الاقتراب من الحدود بين العالم الكلاسيكيّ والعالم الكموميّ. شريحة حاسوب ذات مكوّنات مصغّرة. الصورة | CHRISTIAN LAGEREK / SCIENCE PHOTO LIBRARY

صغير وأصغر

وُلدت الحاجة إلى تعميق البحث في المجال الميزوسكوبيّ مع اندلاع ثورة التصغير. كانت الحواسيب الإلكترونيّة الأولى ضخمة. فعلى سبيل المثال، كان فيتسك، أوّل حاسوب إلكترونيّ في إسرائيل، الّذي بُدىء العمل به في سنة 1955م، بحجم غرفة كاملة. تمّ وضع ذاكرة هذا الجهاز الضخم والمُكلِف في 1024 كلمة، كلّ منها 40 بايت، أي ما يزيد قليلاً عن 40 ألف بايت. قارِنوا ذلك بالقوّة القياسيّة الكبيرة والقوّة المعالجة الأكبر للهاتف الذكيّ الموجود الآن في كلّ جيب تقريبًا.

في سنة 1959م ادّعى الفيزيائيّ الأمريكيّ ريتشارد فاينمان، الحائز على جائزة نوبل لاحقًا، أنّه لن تكون هناك في المستقبل حدود لتصغير المكوّنات الإلكترونيّة. يتوافق ادّعاؤه مع "قانون مور"، الّذي نصّ على أنّ وتيرة التقدّم التكنولوجيّ هي بعدد مكوّنات الدوائر الكهربائيّة، الّتي ستتضاعف كلّ عام ونصف إلى عامين، بفضل وتيرة تصغيرها. وها قد مرّت السنوات، واليوم، تعتمد العديد من أجهزة الحاسوب المنزليّة على ذاكرة صلبة من عدّة تيرابايتات، أي تريليونات البايت. كان جهاز حاسوب بذاكرة مماثلة في الخمسينيّات سيحتلّ مساحة جامعة بأكملها، هذا إذا كان من الممكن بناؤه.

ولكن كما توقّع فاينمان ومور وآخرون، تطوّرت التكنولوجيا على قدم وساق. استبَدلتِ الترانزستوراتُ الصمّامات المفرّغة، الّتي بُنيت على أساسها أجهزة الحاسوب القديمة. من هناك، تمّ تمهيد الطريق للتصغير المتزايد باستمرار. لكن هناك حدّ للتصغير؛ لأنّه عندما تصل إلى مقياس النانومتر، أي بأحجام تصل إلى بضعة أجزاء من المليار من المتر، تدخل التأثيرات الكميّة الّتي قد تشكّل تحدّياتٍ صعبة لمهندسي الحواسيب.

أحد هذه التأثيرات هو التداخل: عندما تلتقي موجتان أو أكثر، يمكن أن تضخِّم إحداها الأخرى، على سبيل المثال عندما تتّحد قمّتا موجتَين في قمّة عالية جديدة تجمع كليهما، أو تُضعف بعضها، بل قد تُلغَى الموجات عندما تلتقي ذروة موجة مع موجة أخرى عند نقطتها المنخفضة. يُسمّى هذا الاندماج "التداخل"، وبسبب الخصائص الموجيّة للجسيمات الكموميّة مثل الإلكترونات، فإنّه يحدث أيضًا فيها، الأمر الّذي قد ينعكس أيضًا في رقائق الحواسيب الّتي تمّ تصغيرها إلى المقاييس الميزوسكوبيّة، ​​ما يؤثّر في وظيفتها.

התאבכות | איור: peterschreiber.media, Shutterstock
يمكن أن يؤدّي التقاء موجتَين إلى زيادة أو تقليل قوّتهما، ويمكن أن يحدث هذا أيضًا للإلكترونات الموجودة في مكوّنات الحواسيب متناهية الصِّغَر. تداخل | الصورة: peterschreiber.media, Shutterstock

معضلة سجين الإلكترون

أوجدَ تطويرُ الأجهزة الميزوسكوبيّة حاجةً لتطوير نموذج نظريّ جديد، يُعرف باسم "غاز الإلكترونات ثنائيّ الأبعاد". يَعتبرُ هذا النموذجُ الإلكتروناتِ في هذه الأجهزة غازًا، أي مجموعةً من الجسيمات الّتي ليس لها تقريبًا أيّة علاقات متبادلة بينها، ولكن علاوة على ذلك، فإنّ حركتها تقتصر على بُعدَين فقط. في حالة عدم وجود بُعد ثالث، تجد الإلكترونات نفسها حرّةً في التحرّك على السطح ثنائيّ الأبعاد الّذي تركته، لكنّها "محجوزة" في المحور الثالث للحيّز، لذلك تحظى بخصائص كموميّة فيه. وهكذا تواجدت الفيزياء الكلاسيكيّة والفيزياء الكموميّة جنبًا إلى جنب في نفس المعيار.

دون الخوض في الكثير من التفاصيل، يمكن مقارنة هذا الاحتواء الكموميّ بالبشر الّذين سقطوا في بئر عميقة جدًّا ولا يمكنهم الخروج منها. معنى هذا أنّه يتعيّن عليك بذل جهد (عمل) من أجل التحرّك بحريّة. أي أنَّ الإلكترونات هنا لا يمكنها التحرّك بحريّة، إنّما محدودة في الحركة والطاقة الّتي بمقدورها تراكُمها، طالما لم يتمّ استثمار أيّ جهد خارجيّ فيها.

يقوم علماء الفيزياء الميزوسكوبيّة بتصميم بئر الطاقة إلى حدٍّ ما مثل النحّاتين الّذين ينحتون شكلًا في حجر بمطرقة وإزميل. هكذا يمكن التحكّم في خصائص البئر، والطاقة الّتي تميّز الإلكترون وخصائص توصيله. وباعتباره مجالًا يقع في الوسط بين الكلاسيكيّة والكموميّة، فإنَّ المبادئ النظريّة الّتي يعمل عليها علماءُ الفيزياء الوسيطة تجمع أيضًا بين ميكانيكا الكمّ والميكانيكا الكلاسيكيّة.

يعرف أيّ طالب يتعلّم الفيزياء في المدرسة الثانويّة ورأى دائرة كهربائيّة في حياته أنّ هناك طريقتَين أساسيّتَين لربط المقاوِمات- مكوّنات بسيطة تعارض تدفّق الإلكترونات: على التوالي، أي الواحدة تلو الأخرى، أو على التوازي، أي الواحدة بجانب الأخرى. يتمّ إرفاق كلّ نوع من أنواع هذه التوصيلات بقاعدة حسابيّة بسيطة تسمح لك بحساب المقاومة الإجماليّة في الدائرة. لكن في العالم الميزوسكوبيّ، وهو عالم غريب نوعًا ما، يتمّ كسر هذه القواعد. إنّ ربط المقاومات الميزوسكوبيّة معقّد وسيكون من الصعب تفصيله هنا.

מודל ממוחשב של זרימת אלקטרונים בגז דו-ממדי | מקור: ERIC HELLER / SCIENCE PHOTO LIBRARY
التدفّق المُحَاصَر. نموذج حاسوبيّ لتدفّق الإلكترون في غاز ثنائيّ الأبعاد | المصدر: ERIC HELLER / SCIENCE PHOTO LIBRARY

الفيزياء الّتي لا تنقطع عن طرح الأسئلة 

يمكن القول إنّ الفيزياء الميزوسكوبيّة لا تزال حتّى اليوم تواجه ادّعاء فاينمان، وتتساءل: ما هو أقصى حجم يمكن إسقاط التأثيرات الكموميّة فيه عندما نقوم بتصغير المكوّنات الكهربائيّة؟

التعريف المقبول لهذا المجال في أيامنا أضيق، ويتراوح ما بين ميكرون واحد، وهو واحد من ألف من المليمتر، إلى مئة نانومتر، أي عُشر ميكرون. ومع ذلك، هناك أيضًا باحثون لا يتقيّدون بهذا النطاق فقط. على سبيل المثال، كان الفيزيائيّ يوسف إيمري، الّذي يُعتبر أبو الفيزياء الميزوسكوبيّة في إسرائيل، مهتمًّا بأبحاثه في النطاق المتوسّط ​​الواسع جدًّا بين السنتيمترات وأعشار النانومتر.

على الرغم من أنَّ الفيزياء الميزوسكوبيّة تُقدّم العديد من الأسئلة والإجابات، فإنَّ القضايا الّتي تناقشها مهمّة لمستقبل التكنولوجيا المصغّرة، الّتي تتطوّر حاليًّا بوتيرة مذهلة. إنَّ فهم هذا المجال الوسيط سيحدِّد، ضمن أمور أخرى، ما إذا كنّا سنقدر على الاستمرار في إنتاج شرائح كمبيوتر أصغر، وقد يدفع أيضًا الجهود للتوفيق بين التناقضات بين الفيزياء اليوميّة وتلك الّتي تعمل على أصغر المقاييس.

 

0 تعليقات