للصّيام فوائد نفسيّة عديدة، كضبط النّفس، تأجيل الإشباع الذّاتيّ، صقل الشّعور بالّتعاطف مع الغير، وتطوير حسّ المسؤوليّة الاجتماعيّة. ولكن ماذا عن فوائده الجّسديّة والدّماغيّة؟ أظهرت دراسات أنّ للصّيام المتقطّع والتّحديد الكالوريّ دور في تحسين وظائف دماغيّة، بالإضافة إلى الحماية من أمراض الشّيخوخة كالزّهايمر والباركنسون.

يُعدّ الجلوكوز (السّكر) والأحماض الدّهنيّة من المصادر الرّئيسيّة لإنتاج الطّاقة في خلايا الجسم. بعد تناول الوجبات الغذائيّة، يُستخدم الجلوكوز لإنتاج الطّاقة، فيما يتمّ تخزين الدّهون في الأنسجة الدّهنيّة على شكل دهون ثلاثيّة (Triglyceride). خلال فترات الصّيام، تنخفض كمّيّات السّكّر في الدّم، ممّا يؤدّي إلى تفكيك الدّهون الثّلاثيّة المُخزّنة في الأنسجة الدّهنيّة، حيث تُستخدم لإنتاج الطّاقة. يقوم الكبد بتحويل هذه الأحماض الدّهنيّة إلى أجسام كيتونيّة والّتي توفّر بدورها مصدر طاقة رئيسيّ للعديد من الأنسجة أثناء الصّيام بما فيها الدّماغ.

يؤدّي هذا التّغيير في عمليّات الأيض (تبديل استخدام الجلوكوز بالأحماض الدّهنيّة والكيتونيّة كمصدر للطّاقة) إلى انخفاض وتيرة التّبادل التّنفّسيّ والتي تمثّل النّسبة بين إنتاج ثاني أُكسيد الكربون و استهلاك الأوكسجين، ممّا يُشير إلى زيادة في المرونة الأيضيّة وكفاءة في إنتاج الطّاقة من الأحماض الدّهنيّة وأجسام الكيتون. أجسام الكيتون لا تعمل بمثابة وقود يُستخدم أثناء فترات الصّيام فقط، بل تشكّل إشارات جزيئيّة قويّة ذات تأثيرات كبيرة على الخلايا والأعضاء. تنظّم أجسام الكيتون التّعبير الجينيّ ونشاط العديد من البروتينات والجزيئات المعروفة بتأثيرها على الصحّة والشّيخوخة، بما فيها ثنائي نوكليوتيد الأدنين وأميد النيكوتين (Nicotinamide adenine dinucleotide, +NAD)، والسرتوين (sirtuins). كما و تحفّز أجسام الكيتون التّعبيرعن جين عامل التّغذية العصبيّة المشتقّ من الدّماغ (brain-derived neurotrophic factor, BDNF) ذي التّأثير على صحّة الدماغ والاضطرابات النّفسيّة والعصبيّة . 

 

الصّيام المُتقطّع ومقاومة الإجهاد

على عكس ما هو متّبع في أيّامنا، فإنّ أسلافنا البشرييّن لم يستهلكوا كمّيّة كبيرة من الوجبات اليَوميّة. علاوةً على ذلك، فإنّهم لم يعيشوا حياةً مستقرّة، بل كانوا يواجهون مخاطر بيئيّة بشكل مستمرّ ممّا أدّى إلى نقص شديد في المصادر الغذائيّة. فيما بعد، مع تطوّر الموارد الفكريّة والاجتماعيّة، تمكّن الإنسان من التّأقلم مع هذه الظّروف، بملاءَمة ردّة الفعل الجّسديّة للظروف البيئيّة.

تشير نتائج دراسات علميّة مختلفة، إلى أنّ معظم أعضاء الجّسم تستجيب للصّيام المتقطّع بطرق تمكّن الكائن الحيّ من تحمّل التّحدّي أوالتّغلّب عليه من أجل استعادة الإستتباب الجّسديّ (homeostasis). يتميّزالصّيام المتقطّع بفترات صيام محدّدة (أيّام أو ساعات)، أو تحديد لكمّيّات الاستهلاك الكالوريّ. يؤدّي التّعرّض المتكرّر لفترات الصّيام إلى استجابات تكيّفيّة الّتي من شأنها أن تُنجّع مقاومة الجسم للتّحدّيات اللّاحقة. تستجيب الخلايا للصّيام المتقطّع عن طريق ردّة فعل تكيّفيّة دائمة للضّغوط والّتي تؤدّي إلى زيادة التّعبير الجينيّ للمواد المضادّة للأكسدة، مواد ترميم الحمض النّوويّ، الإنزيمات المراقبة لجودة البروتينات، الالتهام الذّاتيّ (autophagy)، والبروتينات الواقية من الالتهابات. 

 


 صورة تجسيديّة لمبدأ الصيام المتقطّع | Marcin Malicki Shutterstock

تأثيرات على الصّحة و الدّماغ 

يُحسّن الصيام المتقطّع الوظائف الجسديّة عند الحيوانات والبشر. فقد أفادت واحدة من أقدم الدّراسات، بأنّ صيام متفرّق لأيّام كاملة (صيام أيّام محدّدة بالأسبوع) قد يزيد متوسّط عمر الفئران بنسبة تصل إلى 80 بالمائة، بشرط البدء في اتّباع نظام الصّيام في مرحلة الشّباب الباكرة. ومع ذلك، فإنّ هذا التّأثير خاضع لعوامل عدّة كالجنس، نوع النّظام الغذائيّ، العمر والعوامل الوراثيّة . أظهر بحث آخر أنّ قوّة التّحمّل لدى الفئران الّتي تتبع نظامًا يشمل عدّة أيّام صيام، أعلى من قوّة التّحمّل لدى نظيراتها ذوات موارد الطّعام غير المحدودة . بالإضافة إلى ذلك، أفادت دراسات أخرى على نماذج حيوانيّة، أنّ للصّيام المتقطّع فوائد إدراكيّة ودماغيّة واقية

عند البشر، أظهرت تدخّلات الصّيام المتقطّع تحسّنًا في عدّة مجالات منها: السّمنة، مقاومة الأنسولين، ارتفاع ضغط الدّم والالتهاب. في أحد الأبحاث، خسر 16 مشاركًا سليمًا 2.5% من وزنهم الأوّليّ و 4% من كتلة الدّهون بعد اتّباعهم لـ 22 يومًا من نظام الصّيام المتقطّع، إلى جانب انخفاض بنسبة 57% في مستويات الأنسولين في الدّم أثناء الصّيام. 

في إحدى التّجارب السّريريّة، أدّى تقييد السّعرات الحراريّة على المدى القصير عند كبار السّن إلى تحسين الذّاكرة اللّفظيّة. في دراسة أخرى، والّتي شملت بالغين زائدي الوزن المصابين بضعف إدراكيّ خفيف، أدّى 12 شهرًا من تقييد السّعرات الحراريّة إلى تحسينات في الذّاكرة اللّفظيّة، الوظائف التّنفيذيّة والإدراك العامّ.

على الرّغم من هذه النّتائج الواعدة، لا تزال هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الدّراسات الّتي تبحث في العلاقة بين الصّيام المتقطّع والقدرات الإدراكيّة، خاصّة عند كبار السّنّ، في ظلّ عدم وجود علاجات فعّالة لشيخوخة الدّماغ والأمراض التّنكسيّة العصبيّة كالزّهايمر والباركنسون.

تطبيقات علاجيّة للصّيام

يحسّن الصّيام المتقطّع مؤشّرات عديدة المتعلّقة بصحّة القلب والأوعية الدّمويّة عند البشر والحيوانات، بما في ذلك ضغط الدّم، معدّل ضربات القلب أثناء الرّاحة، مستويات البروتين الدّهنيّ عالي الكثافة ومنخفض الكثافة (HDL و LDL)، الدّهون الثّلاثيّة، الجلوكوز، ومقاومة الأنسولين. كذلك يقلّل الصّيام المتقطّع من نسبة الإلتهابات الجهازيّة ومواد الأكسدة المرتبطة بتصلّب الشّرايين.

هناك أدلّة هامّة في التجارب قبل السّريريّة (pre-clinical trials)، على قدرة الصّيام المتقطّع تأخير تطوّر أمراض عصبيّة  كالزّهايمر والباركنسون في نماذج حيوانيّة. الصّيام المتقطّع يزيد من قدرة الخلايا العصبيّة على مقاومة الأمراض من خلال آليّات متعدّدة، تشمل تعزيز وظيفة الميتوكوندريا و تحفيز الالتهام الذّاتيّ، إنتاج عامل التّغذية العصبيّة، الدّفاعات المضادّة للأكسدة، وإصلاح الحمض النّوويّ. يعزّز الصّيام المتقطّع أيضًا فعاليّة النّاقل العصبيّ المثبّط (GABA) والّذي قد يُساعد في تخفيف وتيرة النّوبات الصّرعيّة وتقليل تحفيز الخلايا الزّائد الّذي يؤدّي إلى إتلافها. 

ومع ذلك...

على الرّغم من الأدلّة الّتي تشير إلى الفوائد الصّحّيّة للصّيام المتقطّع وإمكانيّة تطبيقه على العديد من الأمراض، هناك عوائق أمام التّبنّي الواسع لأنماط الأكل هذه عند المرضى وكافّة النّاس. أوّلًا، النّظام الغذائيّ متعدّد الوجبات متأصّل في ثقافتنا الإنسانيّة، بحيث أنّه نادرًا ما يتمّ التّفكير في تغيير نمط الأكل هذا من قبل المرضى أو الأطباء. ثانيًا، عند البدء بنظام صيام جديد -أيّا كان- سيواجه الكثير من النّاس الجوع، التّهيّج، وانخفاض القدرة على التّركيز خلال فترات تقييد الطّعام. ومع ذلك، عادةً ما تختفي هذه الآثار الجانبيّة الأوليّة بعد فترة قصيرة. 

أخيرًا، يمكن القول بأنّه ومع الإيجابيّات الصّحّيّة العديدة لأنواع الصّيام المختلفة، فإنّ هذا النّوع من النّظام الغذائيّ لا يلائم الجميع بالضّرورة، بحيث أنّه مُقترن بتغييرات فزيولوجّية وبيولوجيّة الّتي تؤثّر بأشكال شتّى على مُختلف البشر. 

 

0 تعليقات