أعلنت منظّمة الصّحّة العالميّة أن تفشّي المرض في أفريقيا يشكّل حالة طوارئ صحّيّة عامّة تثير قلقًا دوليًّا. وفي الوقت نفسه، تمّ اكتشاف أوّل حالة إصابة بهذا الفيروس في أوروبا
أعلنت منظّمة الصّحّة العالميّة قبل أسبوع، للمرّة الثّانية خلال ما يزيد عن عامين، أنّ مرض جدري القرود يمثّل حالة طوارئ صحّيّة عامّة ذات عواقب دوليّة (PHEIC). ويأتي هذا الإعلان هذه المرّة في أعقاب تفشّي المرض في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، الّذي انتشر إلى البلدان المجاورة. وقبل يوم واحد، أعلن المركز الأفريقيّ لمكافحة الأمراض والوقاية منها (African CDC) أنّ تفشّي المرض يمثّل حالة طارئة تعرّض القارة بأكملها للخطر. وهذه هي المرّة الأولى الّتي يعلن فيها المركز حالة الطّوارئ بهذا المستوى منذ إنشائه عام 2017.
أبلغت ما لا يقلّ عن 12 دولة في أفريقيا عن تفشّي مرض جدري القرود، بما في ذلك أربع دول لم يتمّ اكتشاف المرض فيها من قبل - بوروندي، كينيا، رواندا وأوغندا. ومنذ بداية العام حتّى 16 آب، تمّ اكتشاف 18,737 حالة مؤكّدة أو مشتبه بها لمرض جدري القرود في أفريقيا، وتوفّي 541 منهم بسبب المرض، وهو معدّل وفيات أقلّ من ثلاثة في المائة من الحالات الّتي تمّ تحديدها. وحصلت حوالي جميع الحالات تقريبًا، أي أكثر من 95 في المائة، في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة.
وبعد أقلّ من 24 ساعة من إعلان منظّمة الصّحّة العالميّة حالة الطّوارئ، تمّ اكتشاف مريض في السّويد، عاد من أفريقيا، وكان مصابًا بنفس الفيروس المسبّب لتفشّي المرض على نطاق واسع في جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة.
أطلقت المنظّمة أقوى تحذير يمكنها إصداره. وهذه دعوة تحذيريّة لحكومات العالم لتعزيز النّظم الصّحّيّة، والعمل من أجل التّعاون الدّوليّ لتسهيل الاختبارات والعلاجات واللّقاحات. بالإضافة إلى ذلك، تتطلّب حالة الطّوارئ من الدّول زيادة أنظمة مراقبة الأمراض والإبلاغ عن جميع الحالات إلى منظّمة الصّحّة. وسوف تنشر المنظّمة، طالما ظلّت حالة الطّوارئ سارية، إرشادات وتوصيات للعمل إلى الدّول الّتي وصل إليها الفيروس، وإلى الدّول التّي لم يتمّ اكتشافه فيها بعد.
نداء تنبيه لحكومات العالم لتعزيز الأنظمة الصّحّيّة والعمل من أجل التّعاون الدّوليّ في جعل الاختبارات والعلاجات واللّقاحات أكثر سهولة. يد شخص مصاب بجدري القرود، الكونغو 1997| CDC/ Brian W.J. Mahy
تمّ اكتشافه في القرود، وهو شائع في القوارض
ينتمي الفيروس المسبّب للمرض إلى عائلة الفيروسات التّي تضمّ، أيضًا، الفيروسين المسبّبين لمرض الجدري، الّذين انقرضا بفضل حملة التّطعيم العالميّة. حصل فيروس جدري القرود على اسمه، لأنّه تمّ اكتشافه أوّل مرّة في القرود، أثناء تفشّي المرض في منشأة بحثيّة في كوبنهاجن، الدّنمارك، عام 1958. على الرّغم من الاسم، بقدر ما هو معروف، فإنّ المضيف الرّئيسيّ للفيروس هو القوارض. وفي البشر، تمّ اكتشاف المرض أوّل مرّة عام 1970، لدى طفل يبلغ من العمر تسعة أشهر في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة.
يظهر المرض على شكل طفح جلديّ - أحيانًا يكون مؤلمًا للغاية أو مثيرًا للحكّة - والّذي يمكن أن يظهر على اليدين أو القدمين أو الوجه أو الفم أو الأعضاء التّناسليّة أو فتحة الشّرج. في بعض الأحيان تظهر، أيضًا، الحمّى أو تضخّم الغدد اللّيمفاويّة أو آلام العضلات أو الصّداع أو أعراض في الجهاز التّنفّسيّ. وهو خطير بشكل خاصّ لدى الأطفال وضعاف المناعة، مثل الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشريّة HIV.
يمكن أن ينتقل الفيروس من شخص لآخر من خلال الاتّصال الوثيق بالجلد المصاب أو سوائل الجسم المصابة، بما في ذلك الاتّصال الجنسيّ، أو عن طريق العدوى الرّذاذيّة في حال تواصل مستمرّ، أو بعد ملامسة فراش ملوّث. تبدأ أعراض المرض بالظّهور بعد فترة حضانة تتراوح من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع من الإصابة.
المرض متوطّن، أي موجود بشكل طبيعيّ وروتينيّ، في وسط وغرب أفريقيا. منذ الحالة الأولى لدى البشر، انتشر المرض من حين لآخر، خاصّة عندما يصاب البشر بالعدوى المنتقلة من ثديّيات أخرى، وكلّ هذا حصل دون تحوّله إلى وباء. ومع ذلك، في السّنوات الأخيرة، زاد نطاق تفشّي المرض وتمكّن الفيروس من الخروج من القارة الأفريقيّة.
ينتمي الفيروس المسبّب للمرض إلى عائلة الفيروسات الّتي تضمّ، أيضًا، الفيروسين المسبّبين لمرض الجدري. صور المجهر الإلكترونيّ للفيروس | CDC/ National Institute of Allergy and Infectious Diseases (NIAID)
بين سلالتين
تشتمل شجرة عائلة الفيروس على فرعين رئيسيّين: السّلالة I، وسُمّيت سابقًا سلالة حوض الكونغو، وتنقسم إلى سلالتين: Ia وIb، والسّلالة II، وسُمّيت سابقًا سلالة غرب أفريقيا، وتنقسم إلى سلالتين IIa وIIb. وتعتبر السّلالة الأولى أكثر عنفًا، وقد تسبّبت تاريخيًّا في أفريقيا إلى وفيات تصل إلى 10.6% من الحالات المحدّدة. كما كانت تعتبر أكثر عدوى، حتّى أنّها تفشّت خارج أفريقيا في عام 2022 وخاصّة السّلالة IIb، ممّا أدّى إلى اهتمام الدّول الغربيّة بالفيروس. تاريخيًّا، تسبّبت السّلالة الثّانية في أفريقيا إلى وفاة حوالي 3.6% من الحالات المحدّدة، ولكن في حالة تفشّي المرض في جميع أنحاء العالم، توفّي 0.1 % فقط من المرضى.
بدأ تفشّي ال 2022 قبل بضع سنوات من ذلك، تحديدًا عام 2014 في نيجيريا، على الرّغم من أنّ المتخصّصين لم يلاحظوا الحالات في البلاد إلّا عام 2017. وكانت هذه هي المرّة الأولى منذ 39 عامًا الّتي يتمّ فيها اكتشاف حالة المرض هناك. وظهر المرض لدى العديد من المرضى في حالة التّفشّي الجديد من البالغين المصابين بالجدري في منطقة الأعضاء التّناسليّة، لذلك اشتبه الباحثون في نيجيريا إلى أنّه، لأوّل مرّة، قد ينتقل المرض مباشرة بين البشر أثناء الاتّصال الجنسيّ. بين الأعوام 2018 - 2022، تمّ اكتشاف حالات قليلة لمرض جدري القرود خارج أفريقيا، بما في ذلك حالة واحدة في إسرائيل، وكلّها لأشخاص عادوا من نيجيريا، ولكن في عام 2022 حصل شيء ما.
في شهر أيّار - مايو، تمّ اكتشاف مريض في بريطانيا، كان في نيجيريا، ولكن سرعان ما تمّ اكتشاف المزيد والمزيد من المرضى حول العالم الّذين لم يكونوا في هذا البلد أو في أفريقيا على الإطلاق. كان جميع المصابين تقريبًا خارج أفريقيا من الرّجال الّذين يمارسون الجنس مع الرّجال - وهي مجموعة تضمّ رجالًا فضوليّين ومزدوجي التّوجّه الجنسيّ (ميول جنسيّ) ومثليّين جنسيًّا، ومع ذلك، فإنّ عامل خطر الإصابة ليس بسبب التّوجّه الجنسيّ إنّما بسبب اقامة علاقة جنسيّة مع شركاء متعدّدين دون وقاية.
وتبيّن أنّ الفيروسات الّتي تسبّبت في ذلك التّفشّي هي من سلالة جديدة IIb التّي تنتقل بشكل رئيسيّ عن طريق الاتّصال الجنسيّ، وقد حدثت فيها طفرات تجعلها على ما يبدو أكثر عدوى من شخص لآخر. وعقب انتشار الفيروس، أعلنت منظّمة الصّحّة العالميّة في تمّوز 2022 أنّ تفشّي مرض جدري القرود يمثّل حالة طارئة، رغم ذلك، لم تتلقَّ الدّول الأفريقيّة المساعدات الّتي تحتاجها لمكافحة المرض إلّا بصعوبة. تمّ رفع حالة الطّوارئ في أيّار 2023 عندما انخفضت عدد الحالات خارج أفريقيا، وذلك بفضل التّغيّرات في السّلوك وتلقيح السّكّان المعرّضين للخطر، بلقاح متطوّر ضدّ الجدري، وفعّال أيضًا ضدّ فيروسات أخرى من العائلة في أفريقيا. ومع ذلك، لا تزال حالات الإصابة الجديدة تحدث داخل أفريقيا وخارجها. حتّى الآن، تمّ تشخيص ما يقرب من 100,000 إصابة في هذه التّفشّي، وكان هناك ما يقارب 200 حالة وفاة في 116 دولة.
في عام 2022 حدث تفشّي لمرض جدري القرود خارج أفريقيا. مركز الاستشارة والتّطعيم في نيوزيلندا | Prosperosity, CC BY 4.0, via Wikimedia Commons
وفي الوقت ذاته، استمرّ عدد حالات جدري القرود في أفريقيا في التّزايد. وفي جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة، قفز عدد الحالات من حوالي 7000 حالة عام 2022، إلى ما يقارب 15000 حالة عام 2023. ومنذ بداية عام 2024، تمّ الإبلاغ عن حالات أكثر مقارنة بالعام الّذي سبقه - أكثر من 18000 حالة.
ينجم المرض في جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة عن فيروسات من السّلالة الأكثر فتكًا، السّلالة الأولى. وكما كان الحال على مرّ التّاريخ، إنّ غالبيّة المرضى والموتى من الأطفال.
معظم الحالات هم مصابون بسلالة Ia، الّذي ينتقل بشكل رئيسيّ عن طريق التّعرّض للحيوانات أو بين أفراد الأسرة، على الرّغم من أنّه تمّ اكتشاف في مارس 2023 أنّه يمكن أن ينتقل، أيضًا، عن طريق الاتّصال الجنسيّ.
في سبتمبر - أيلول من ذلك العام، تمّ اكتشاف أوّل حالة لجدري القرود في مقاطعة تعدين جنوب كيفو في شرق جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة. وسرعان ما ارتفع عدد الحالات وأصبح من الواضح أنّ الفيروس ينتشر في المجتمع بشكل أساسيّ من خلال الاتّصال الجنسيّ بين الجنسين، بين العاملين في مجال الجنس. ومن هناك وصل الفيروس، أيضًا، إلى الدّول المجاورة، حيث عاد المصابون لزيارة عائلاتهم.
وقال جين ناشيجا (Nachega)، طبيب الأمراض المعدية في جامعة بيتسبرغ، لمجلّة WIRED: "جزء كبير من العمّال يأتون من البلدان المجاورة. يتلقّون رواتبهم في نهاية الشّهر، ويقضون بعض الوقت في الحصول على خدمات جنسيّة مدفوعة الأجر، ثمّ يعودون إلى بلدانهم الأصليّة لزيارة أسرهم، وهكذا ينشرون المرض في المنطقة".
ينتقل هذا الفيروس بسهولة من شخص لآخر، على ما يبدو بفضل الطّفرات الّتي حدثت فيه بين تمّوز - أيلول 2023. ويسمّى الآن السّلالة Ib. أصيب المريض في السّويد بفيروس من هذا الفرع، وهذه هي المرّة الأولى الّتي يتمّ فيها اكتشاف مريض من السّلالة الأولى خارج أفريقيا.
كان معظم المرضى على مرّ التّاريخ من الأطفال. فتاة تبلغ من العمر 4 سنوات مصابة بطفح جلديّ نموذجيّ لمرض جدري القرود، ليبيريا، 1971 | مركز السّيطرة على الأمراض
ما يحدث في أفريقيا لا يبقى في أفريقيا
يرى رئيس منظّمة الصّحّة العالميّة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس (Ghebreyesus)، "أنّ ظهور سلالة جديدة من جدري القرود، وانتشارها السّريع في شرق جمهورية الكونغو الدّيمقراطية، والتّقارير عن حالات جديدة في عدّة دول مجاورة تثير قلقًا كبيرًا"، وهي أسباب إعلان حالة الطّوارئ. وأضاف "بالإضافة إلى ذلك، هناك، أيضًا، تفشّي لسلالات أخرى من جدري القرود في جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة ودول أخرى في أفريقيا. ومن الواضح أنّ هناك حاجة إلى ردّ فعل دوليّ منسّق لوقف هذه التّفشّيات وإنقاذ الأرواح".
وقال رئيس لجنة الطّوارئ في المنظّمة: "إنّ الزّيادة الحاليّة في حالات جدري القرود في أجزاء من أفريقيا، إلى جانب انتشار سلالة جديدة من فيروس جدري القرود الّذي ينتقل عن طريق الاتّصال الجنسيّ، تمثّل حالة طوارئ ليس لأفريقيا فحسب، بل للعالم أجمع". واتّفق معه عضو اللّجنة، البروفيسور ديمي أوجوينا (Ogoina)، قائلًا: "لقد تمّ إهمال مرض جدري القرود، الّذي نشأ في أفريقيا، ثمّ تسبّب في تفشّي المرض عالميًّا في عام 2022. لقد حان الوقت للعمل بشكل حازم لمنع تكرار التّاريخ".
من المحتمل أن يكون الإهمال الّذي ذكره أوجوينا قد أسهم في تفشّي المرض الحاليّ. بعد انتهاء حالة الطّوارئ السّابقة، نشرت منظّمة الصّحّة العالميّة توصيات لمعالجة المشكلة في أفريقيا كجزء من جهد طويل الأمد تبذله دول العالم، بما في ذلك الدّعم الماليّ وتوفير تدابير المراقبة والتّطعيم، إلّا أنّ توصيات المنظّمة لم تحفّز الدّول الغربيّة الغنيّة على التّحرّك.
مع إعلان حالة الطّوارئ الجديدة، بدأ العالم يستيقظ. أعلن الاتّحاد الأوروبيّ وشركة "بافاريان نورديك" المنتجة للقاح جدري القرود، يوم الأربعاء، أنّهما سوف يتبرّعان بـ 215 ألف جرعة من اللّقاح لدول في أفريقيا، كما أعلنت الولايات المتّحدة أنّها ستتبرّع بـ 50 ألف جرعة. لكن هذه لا تزال جزءًا صغيرًا فقط من العشرة ملايين جرعة اللّازمة، وفقًا للمركز الأفريقيّ لمكافحة الأمراض والوقاية منها، للحدّ من تفشّي المرض في أفريقيا. وأعلن المركز أنّه من أجل محاولة الحصول على هذه الكمّيّة من الجرعات، هو يعمل على تطوير التّعاون مع شركة بافاريان نورديك لإنتاج اللّقاحات في القارّة. بالإضافة إلى التّطعيمات، إنّ رفع مستوى الوعي العامّ بالمرض والتّثقيف حول طرق انتقاله يمكن أن يقلّلا من عدد الإصابات، كما أنّ تحسين الرّعاية الدّاعمة للمرضى يمكن أن يقلّل بشكل كبير من معدّل الوفيات بسبب المرض.
إنّ السّيطرة على تفشّي المرض سوف تتطلّب جهدًا كبيرًا، ولكن إذا لم تركّز البلدان الغنيّة هذه المرّة على نفسها فقط - حتّى عندما يتمّ اكتشاف حالات المرض في أراضيها - واستمرّت في مساعدة أفريقيا، فقد تتمكّن من إنقاذ الأرواح ومنع حالة الطّوارئ القادمة.
وماذا عن إسرائيل؟ في الوقت الحاليّ، لا توجد حالات إصابة معروفة في السّلالة الجديدة، فقط في السّلالة IIb، ولديها مخزون من اللّقاحات لتطعيم السّكّان الّذين يعتبرون معرّضين للخطر: مزدوجي التّوجّه الجنسيّ، مثليّين جنسيًّا، العاملين في مجال الصّحّة والعاملين في المختبرات الّذين قد يتعرّضون للفيروس. يجب، أيضًا، حماية الأشخاص الّذين تمّ تطعيمهم بجرعتين من لقاح جدري القرود من السّلالة الجديدة، وهم أقلّ عرضة للإصابة بالعدوى أو الإصابة بمرض خطير، لذلك إذا كنتم ضمن مجموعة سكّانيّة معرّضة للخطر، ولم تحصلوا بعد على جرعتين من اللّقاح، اذهبوا إلى صندوق التّأمين الصّحّيّ للحصول على التّطعيم. حتّى أولئك الّذين أصيبوا بجدري القرود وتعافوا، محميّون من المرض، ولا يحتاجون إلى اللّقاح.