رغم الهدف الإيجابيّ للتحذير من المحتوى الحسّاس، إلّا أنّ الدراسات تشير بالإضافة إلى كونه غير مفيد لمعظم الأشخاص، فإنّه قد يسبّب التوتّر والقلق بحدّ ذاته
يشير علم النفس إلى أنّ "المحفّزات" تستحضر بشكل لا إراديّ ذكريات تجربة مؤلمة سابقة. لا ينبغي للمحفّز في حدّ ذاته أن يكون مخيفًا أو حزينًا؛ فهو يكفي لإثارة ذكرى معيّنة لدى الشخص. يمكن أن يتجلّى المحفّز عبر أيّ تذكُّر حسّيّ لحدث مؤلم: الصوت، البصر، الرائحة، أو الإحساس الجسديّ. على سبيل المثال، قد يكون انفجار الألعاب الناريّة في السماء محفّزًا للأشخاص الّذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، في حين أنّ نباح الكلب قد يكون محفّزًا للتعرّض للعضّ عندما كان طفلًا.
تعتبر كيفيّة إنشاء المحفّز في الدماغ غير معروفة حتّى يومنا هذا. يفترض الباحثون أنّه عند حدوث موقف صادم يزعزع إحساسنا بالأمان، يخزن دماغنا الذكريات بطريقة مختلفة عن المعتاد، بحيث يحفظ المحفّزات الّتي استشعرناها في ذلك الوقت إلى جانب المعلومات الواقعيّة حول ما حدث. قد تتحوّل بعض هذه الذكريات إلى محفّزات، وعندما نواجهها مرّة أخرى، يفسّرها دماغنا على أنّها تهديد ويعيد تنشيط ردود الفعل والمشاعر المرتبطة بالصدمة.
في مثل هذه الحالة، نتعرّض للإجهاد النفسيّ والإثارة الجسديّة كنتيجة لتنشيط استجابة الكرّ أو الفرّ (Fight-or-flight response)- وهي سلسلة من ردود الفعل العصبيّة والهرمونيّة الّتي تهدف إلى إعداد أجسامنا لحالة طارئة قد تتطلّب استجابة سريعة. في بعض الأحيان، قد نجهل حتّى سبب شعورنا بالتوتّر فجأة. على سبيل المثال، إذا تعرّضنا لحادث سيّارة أثناء تشغيل أغنية معيّنة، فإنّ سماع نفس الأغنية لاحقًا قد يعيد إحياء التجربة المؤلمة من جديد، حتّى لو لم نعرف كيفيّة ربط الشعور بهذه الأغنية.
في المرّة القادمة الّتي نتعرّض فيها للمحفّزات الّتي استشعرناها في وقت الحدث، سوف يفسّرها دماغنا على أنّها تهديد، ما يعيد تنشيط ردود الفعل والمشاعر المرتبطة بالصدمة. رسم توضيحيّ لنشاط الدماغ استجابة للصوت| Shutterstock, magic pictures
آليّة دفاع مثيرة للجدل
أدّى تطوّر الشبكات الاجتماعيّة في العقدين الأخيرين إلى ظهور " تحذيرات المحتوى الحسّاس"- وهي تهدف إلى تحذير الأشخاص الّذين يعانون من الصدمات مسبقًا بشأن المحتوى الّذي قد يثير مشاعر صعبة لديهم. بدأ استخدام التحذيرات في منتديات الإنترنت المُخصَّصة للأشخاص الّذين تعرّضوا لصدمات جنسيّة، حيث كان المشاركون فيها يقومون بالتحذير عندما تتضمّن رسائلهم محتويات قد تكون مؤلمة. بمرور الوقت، انتشر استخدام هذه التحذيرات أيضًا في نطاقات أخرى ومحتويات متنوّعة، بما في ذلك العنف، العنصريّة، التعذيب والضرر الذاتيّ.
تظهر التحذيرات من المحتويات الّتي تتناول مواضيع قد تؤدّي إلى الصدمة كذلك في المؤسّسات التعليميّة، التطبيقات، الشبكات الاجتماعيّة، الأفلام والبرامج التلفزيونيّة. في العقد الماضي، توسّع استخدام تحذيرات كهذه بشكل كبير في العديد من المؤسّسات الأكاديميّة في الولايات المتّحدة، حيث يطلب الطلاب من محاضريهم تحذيرهم مسبقًا قبل مناقشة أيّ محتوى قد يكون مزعجًا.
أثار الاستخدام واسع النطاق للتحذيرات ردّ فعل قويًّا جزئيًّا من قِبل الباحثين الّذين شكّكوا في فعاليّتها. يشير مؤيّدو التحذيرات إلى أنّها تسمح للأشخاص بتجنّب التعرّض غير المرغوب فيه للمحتوى الّذي قد يثير ردّ فعل عاطفيًّا مؤلمًا لديهم. وفقًا لهذا التوجّه، حتّى لو اختاروا التعرّض لمحتوى مشحون بعد تلقّي التحذير، فإنّهم سيكونون أكثر استعدادًا لذلك نفسيًّا، وسيكونون قادرين على إدارة عواطفهم والاستجابة لها بشكل أفضل.
بالمقابل، يعتقد المعارضون لهذا التوجّه أنّه عندما يتجنّب الشخص التعامل مع محتوى يثير لديه مشاعر مؤلمة، فإنّه يقلّل من فرص تجاوز المحفّزات، وتدريب استجاباته العاطفيّة وتعلّم كيفيّة إدارتها. يعتمد هذا التوجّه على نتائج الأبحاث الّتي أظهرت وجود علاقة بين تجنّب التعامل مع الاستجابة العاطفيّة وزيادة شدّة الضيق النفسيّ.
ويعتقد المعارضون أنّه عندما يتجنّب الشخص التعامل مع المحتوى الّذي يثير لديه مشاعر صعبة، فإنّه يقلّل من فرص مواجهة ردود أفعاله العاطفيّة وتعلّم كيفيّة إدارتها. شخص محجوز داخل صندوق مُنجَّد | شيرا هولاند بواسطة ال- DALL-E
المحفّزات في العالم الحقيقيّ
هل يساهم التحذير فعلًا في مساعدة الأشخاص على الاستعداد نفسيًّا لمشاهدة محتوى صعب؟ فحص باحثون من هارفارد هذا السؤال في عام 2018، حيث طلبوا من 270 شخصًا قراءة نصوص أدبيّة مشحونة مستمدّة من كتب المدارس الثانويّة والمساقات الجامعيّة الأكاديميّة. لم يتعرّض المشاركون لأحداث مؤلمة كبيرة في الماضي. تمّ تقسيم المشاركين عشوائيًّا إلى مجموعتين: تلقّت المجموعة الأولى تحذيرًا قبل قراءة المحتوى الصعب، بينما لم تتلقَّ المجموعة الثانية- المجموعة الضابطة- أيّ تحذير قبل القراءة. في نهاية القراءة، طُلب من المشاركين تقييم مستوى القلق لديهم، وملء استبيانات لفحص مستوى الحساسيّة والمرونة النفسيّة لديهم.
وفقًا لنتائج البحث، تبيّن أنّ المشاركين من المجموعة الأولى يميلون للشعور بالقلق، خاصّة إذا كانوا يعتقدون أنّ الكلمات يمكن أن تكون مؤذية وتثير محفّزات لصدمات سابقة، وذلك مقارنة بأعضاء المجموعة الضابطة الّذين كانوا أقلّ قلقًا. من هذا المنطلق، استنتج الباحثون أنّ التحذير بحدّ ذاته قد يعكس جوانب معيّنة من المرونة العقليّة.
اختبرت دراسات أخرى مؤشّرات مماثلة فيما يتعلّق بالمحتوى المرئيّ، على سبيل المثال من خلال التحذير قبل عرض صور قد تكون صعبة للمُشاهد. تشير النتائج الّتي توصّلوا إليها إلى أنّ التحذيرات قد عزّزت المشاعر السلبيّة الّتي شعر بها المشاركون قبل عرض الصور، لكنّها لم تغيّر بشكل كبير استجابتهم العاطفيّة للصور نفسها.
بحثت دراسة أخرى تأثير التحذيرات من المحتوى على مظاهر الضيق بعد التعرّض لمحتوى مشحون. عرض الباحثون محتوى مواضيع كان من المتوقّع أن تثير مستويات مختلفة من المشاعر السلبيّة مثل إساءة معاملة الأطفال، القتل، حوادث السيّارات، والعنف المنزليّ، على أكثر من 1300 مشارك، تلقّى بعضهم تحذيرات مسبقة. تبيّن أنّ التحذيرات ليس لها تأثير يُذكر، إنْ وُجِد، على كيفيّة حُكم المشاركين على المحتوى أو تجربتهم. على الرغم من أنّ ذلك قد أثار في نفوس المشاركين توقُّع تجربة مشاعر سلبيّة، إلّا أنّه لم يؤثّر في مستوى الضيق الّذي أبلغوا عنه بالفعل. لم يؤثّر التحذير في تصنيف المحتوى لدى المشاركين الّذين أفادوا أنّهم تعرّضوا لأحداث مؤلمة في الماضي. وبعد دراسة جميع النتائج، استنتج الباحثون أنّ التحذيرات ليست مفيدة أو ضارّة بشكل كبير.
هل يساعد التحذير الأشخاص حقًّا على الاستعداد ذهنيًّا للمحتوى الصعب؟ رسم توضيحيّ للتحذير | krungchingpixs
تنبيه: أمامك تحذير
مثل العديد من الدراسات في علم النفس، تعتمد الدراسات الّتي ذكرناها على الاستبيانات والتقارير الذاتيّة، والّتي تفحص مستوى الضيق الّذي أبلغ عنه المشاركون بعد التعرّض للمحتوى. مع ذلك، تشمل استجابة الخوف مكوّنات إضافيّة، يمكن تحديد بعضها وقياسها بشكل مباشر، دون الاعتماد على ما يرغب الناس ويستطيعون قوله عن مشاعرهم وأفكارهم- على سبيل المثال، تجنّب العامل المخيف، أو زيادة التمثيل الغذائيّ بعد تنشيط استجابة " الفرّ أو الكرّ". قد يزيد التحدّي العاطفيّ الوشيك من الإثارة الجسديّة، وهذه الزيادة لها علامات فيزيولوجيّة يمكن قياسها.
في عام 2021، نُشرت دراسة بحثت فيما إذا كان التحذير من المحتوى يمكن أن يثير مثل هذه الاستجابة الفيزيولوجيّة، وما إذا كان مرتبطًا بقرار الأشخاص بتجنّب التعرّض للمحتوى المشحون. قام الباحثون بتقسيم 106 مشاركين بشكل عشوائيّ إلى ثلاث مجموعات؛ تلقّت المجموعة الأولى تحذيرًا مفصّلًا حول المحتوى، بينما تلقّت المجموعة الثانية تحذيرًا تقليديًّا ينصّ على أنّ المحتوى غير ملائم للأشخاص ما دون سن الثالثة عشرة (parental guidance for children under 13 - PG13)، أمّا المجموعة الثالثة فلم تتلقَّ أيّ تحذير. بعد ذلك، مُنح المشاركون خيار مشاهدة المحتوى الّذي تمّ تحميله- وهو مقطع فيديو يصوّر مشهدًا متوتّرًا ولكن دون عنف صارخ- أو تخطّيه.
حدّد الباحثون درجة التوتّر بناءً على وتيرة ضربات القلب، معدّل التنفّس، والتوصيل الكهربائيّ لجلد المشاركين. أشارت المؤشّرات جميعها إلى أنّ التحذير بحدّ ذاته أدّى إلى زيادة كبيرة في مستوى التوتّر لدى أفراد المجموعة الأولى، والّتي كانت أعلى من تلك الموجودة لدى المجموعة الثانية. على الرغم من ذلك، لم يختر أيّ مشارك التوقّف عن المشاهدة.
كشفت النتائج مرّة أخرى أنّه حتّى لو كان هناك فائدة للتحذيرات من المحتوى، فهي هامشيّة في أحسن الأحوال، ولكنّ التحذيرات نفسها قد تزيد من مستويات التوتّر والقلق. كما تبيّن أنّه لا يوجد فرق كبير بين درجة الإثارة الجسديّة الّتي يعاني منها المشاركون الّذين شهدوا أنّهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة والمشاركون الآخرون.
بحثت معظم الدراسات استجابات الأشخاص الّذين ليس لديهم اضطرابات قلق معروفة أو صدمات سابقة كبيرة. رسم توضيحيّ لما بعد الصدمة| Shutterstock, krungchingpixs
لتقديم التحذير أم لا؟
تنقسم في الوقت الحاليّ الآراء حول ما إذا كانت التحذيرات ضروريّة، وإذا كان الأمر كذلك- لمن؟ لا تزال دراسة هذه المسألة في مراحلها الأولى، وتعاني من بعض المشاكل. تعتبر أبرزها أنّ معظم الدراسات تناولت استجابة الأشخاص الّذين لا يعانون من اضطرابات قلق معروفة أو صدمات كبيرة في ماضيهم، ما يعني أنّ هناك نقصًا في المعلومات الّتي توضّح كيف استجابت المجموعة الرئيسة فعليًّا لهذه التحذيرات، والّتي بدأ استعمال هذه التحذيرات لأجلها. كما أنّ معظم الدراسات أُجريت في ظروف مخبريّة لا تعكس بالضرورة الواقع. يقول عالِم النفس كريستيان جاريت (Christian Jarrett) إنّ " التحذيرات يجب أن تأتي مصحوبة بتحذير خاصّ بها"، حيث يعتقد أنّها لا تساعد، بل تجعل الناس أيضًا يعتقدون أنّ البشر أكثر هشاشة مما هم عليه بالفعل.
مع ذلك، حتّى لو كانت نتائج الأبحاث حول التحذيرات المحفّزة صحيحة بالفعل، ولم يكن لها أيّة فائدة نفسيّة تقريبًا لمعظم الناس، فإنّ السؤال الأخلاقيّ والإيديولوجيّ يبقى قائمًا: ألا يستحقّ الناس أن يختاروا لأنفسهم ما إذا كانوا يريدون التعرّض لمحتويات صعبة؟ يعتقد ميسون ستوكس (Mason Stokes)، محاضر الأدب الّذي يؤيّد التحذيرات، أنّها مهمّة جدًّا. يقول ستوكس إنّ إحدى الطالبات في مساقه، والّتي قد تعرّضت لسفاح القُربى في صغرها، أُصيبت بأزمة نفسيّة حادّة إثر رواية عن الموضوع الّذي طُلب منها قراءته كجزء من المساق، واحتاجت إلى العلاج في مستشفى للأمراض النفسيّة. من الصعب معرفة من سيتعرّض للمحتوى مُسبقًا، خاصّة في نطاق متعدّد المشاركين، لذلك قد يكون من المفضّل على أيّ حال النظر في إمكانيّة وجود شخص يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة بين الجمهور، والقيام بالتحذير مسبقًا قبل تعريضه لمحتوى قد يثير الصدمة من جديد.