تفيد دراسة حديثة أنّ عدد الأيام الماطرة في منطقتنا سوف يقلّ، لكنّنا سنشهد المزيد من أحداث الأمطار الغزيرة. كيف يمكننا أن نفسّر هذه الاستنتاجات بالاعتماد على أسس علميّة بسيطة؟

حصلت في العقود الأخيرة تغيّرات كبيرة في مناخ الكرة الأرضيّة، تغيّرات ترتبط بدرجة الحرارة، ويبدو أنّ هذه التغيّرات ستستمرّ في المستقبل القريب. تنبعث غازات الدفيئة، نتيجة للنشاط البشريّ، بوتيرة لم يسبق لها مثيل، الأمر الذي أدّى إلى الاحترار الذي قيسَ في غالبيّة المناطق على الكرة الأرضيّة

كان المفهوم الشائع أنّ تأثير الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ العالميّ يقتصر على الاحترار، لكنّنا ندرك اليوم أنّ انبعاث غازات الدفيئة يؤثّر على مناخ الكرة الأرضيّة من جميع جوانبه، بما فيه أنظمة الرياح وأنماط هطول الأمطار في العالم. يؤدّي انبعاث غازات الدفيئة إلى حدوث الجفاف والقحط، والفيضانات وتغيّر فصول السنة. 

كيف ستتغيّر أنماط الأمطار في بلادنا؟ تؤثّر الإجابة على هذا السؤال تأثيرًا بالغًا على الزراعة، وعلى البنى التحتيّة وعلى المنظومات البيئيّة. سنحاول من خلال هذه المقالة فهم جزء من التغيّرات المتوقّعة وذلك بالاستعانة بأسس علميّة بسيطة: تأثير الاحترار العالميّ على كمّيّات بخّار الماء في الجو وعلى منظومات الرياح العالميّة.


من المتوقّع أن تحصل تغيّرات على أنماط الأمطار في العالم، وفي بلادنا أيضًا. حقل من الشيلم المزروع (الشيفون) في يوم حارّ وجافّ | rsooll, Shutterstock

ازدياد نسبة الرطوبة

طوّر عالِمان، قبل حوالي مائتي سنة، معادلة يمكن أن نستدلّ من خلالها العلاقة بين المطر وازدياد كمّيّة غازات الدفيئة، وسمّياها معادلة كلاوزيوس - كَلابيرون. تفيد هذه المعادلة بأنّ كمّيّة بخار الماء التي يتّسع لها الهواء الساخن أكبر من الكمّيّة التي يتّسع لها الهواء البارد. مثلًا، يحتوي القِدر المُغطَّى على كمّيّة أكبر من بخار الماء كلّما كان الماء والهواء فيه أكثر سخونةً. تحدث داخل القدر عمليّتان: يتبخّر الماء، وتتكثّف أبخرته إلى ماء سائل في آن واحد. تزداد وتيرة تبخّر الماء مع تسخينه، إلّا أنّ وتيرة التكثف تزداد هي الأخرى نتيجة لازدياد كمّيّة البخار. تتساوى وتيرة التكثّف الآخذة بالازدياد، بعد فترة معيّنة من التسخين، مع وتيرة التبخّر، وتبقى عندها كمّيّة البخار داخل القِدر ثابتة. تسمّى هذه الحالة بحالة الاتّزان، ويمكن، بالاستعانة بمعادلة كلاوزيوس - كلابيرون، حساب كمّيّة بخار الماء في الهواء في حالة الاتّزان عند تغيّر درجة حرارة الهواء.  

 يتّضح لنا، عند استخدام هذه المعادلة في وصف الغلاف الجوّيّ والبحار، أنّ نسبة كمّيّة بخار الماء التي يمكن أن يحتويها الهواء تزداد حتّى سبعة بالمائة، نتيجة لارتفاع درجة حرارة سطح الكرة الأرضيّة مقدار درجة واحدة. لا تجزم المعادلة قطعًا بأنّ الهواء سوف يحتوي على نسبة أعلى من الرطوبة، إلّا أنه قد يحتوي على المزيد منها. توجد في العالم، لهذا السبب، مناطق حارّة وجافّة، مثل الصحاري. عندما تشتدّ الحرارة في المستقبل، وفقًا لِلمعادلة، سَيحتوي الهواء على كمّيّة أكبر من بخار الماء، الذي يمكن أن يتكثّف مكوّنًا الغيوم، ويُهطِل الأمطار. يؤدّي ازدياد كمّيّة المياه في الهواء إلى هطول أمطار أكثر شدّة وغزارة، بما فيه هنا في بلادنا.    


تؤدّي خليّة هادلي الى أن يعلو الهواء في منطقة خطّ الاستواء، فيبرد، ويتكاثف ويُهطِل الأمطار، الخلايا الهوائيّة على سطح الكرة الأرضية | Designua, Shutterstock

الرياح، الأمطار والصحاري

استنتجنا إذًا أنّ كمية المياه في الجو وكذلك كمّيّة الرواسب سوف تزداد، لكن أين ستهطل الأمطار؟ يحتوي الهواء على بخار الماء، كما أنّ بوسعه التمسّك بقطرات الماء المحلّقة - أي الغيوم. إنّها معادلة حالة الاتّزان: يتحوّل بخار الماء إلى قطرات الماء التي تعود وتتبخّر ثانيةً وتتحوّل إلى الحالة الغازيّة، إذا لم تكون ثقيلة بما يكفي لأن تهطل على الأرض. أما المطر فهو مثال لحالة عدم الاستقرار: تهطل قطرات الماء الآخذة بالكبر على شكل مطر، عندما تصبح ثقيلة بما فيه الكفاية.

يمكن أن تتطوّر حالة عدم الاستقرار هذه بعدة طرق. أحد المكوّنات الهامة في هذا الشأن هو حركة الهواء العموديّة إلى الأعلى. يبرد الهواء بسرعة ويتكاثف الماء ويتحوّل إلى قطرات. تكبر هذه القطرات إلى أن يزداد ثقلها بما يكفي لأن تهطل على شكل مطر. تقع بلادنا في نقطة التقاء منطقة مناخ البحر المتوسط المُكيَّف مع منطقة المناخ الصحراويّ، وتؤدّي حالة عدم الاستقرار هذه ومعها حركة الهواء العموديّة إلى احتمال هطول الأمطار في فصل الشتاء، وقلة احتمال هطولها في فصل الصيف. علينا أن نتعرّف على منظومة الرياح المسمّاة بـ خليّة هادلي (Hadley cell)، كي نفهم سبب هذه الفروق بين فصول السنة. 

خليّة هادلي هي عبارة عن منظومة تيّارات هوائيّة على نطاق عالميّ تنجم عن الفرق في درجات الحرارة ما بين المنطقة الاستوائيّة حول خطّ الاستواء، حتى خط العرض 23، وبين المناطق شبه الاستوائيّة، بين خطوط العرض 23 و 35. يؤدّي جريان الهواء في هذه الخليّة إلى علوّ الهواء الرطب في المنطقة الاستوائيّة، حول خطّ الاستواء، وإلى هبوط الهواء الجافّ في المناطق شبه الاستوائيّة. اكتسبت هذه المنظومة اسم "الخليّة" من هذا التيّار الدائريّ المغلق. يجري الهواء داخل الخليّة بشكل عموديّ، ويُشير ذلك إلى وجود صلة بين هذه الخليّة ونظام هطول الأمطار على نطاق عالميّ. تساهم خليّة هادلي فعلًا في علوّ الهواء في منطقة خطّ الاستواء، حيث يبرد، ويتكاثف ويُهطل الأمطار. الغابات المطيرة في المناطق الاستوائيّة، بما في ذلك غابات الأمازون، قائمة بفضل ذلك. تساهم خلية هادلي، بالمقابل، في هبوط الهواء الجافّ الذي يمنع هطول الأمطار في المناطق شبه الاستوائيّة، ويؤدّي بذلك إلى تكوّن الشريط الصحراويّ، من ضمنه الصحراء الكبرى في أفريقيا. 

الخليّة هي خليّة موسميّة. يصل الجزء الهابط والجافّ منها في فصل الصيف حتّى خطّ العرض 30 تقريبًا، أمّا في فصل الشتاء فيبقى الجزء الهابط أقرب إلى خطّ الاستواء ويؤثّر على منطقة أصغر. تقع بلادنا في خطّ العرض 31 ويمنع التيار الهوائيّ الجافّ في فصل الصيف هطول الرواسب، فيكون صيف البلاد جافًّا تمامًا تقريبًا. أما في فصل الشتاء، فلا تصل خليّة هادلي الى منطقتنا ويمكن عندها للأمطار أن تهطل.  


لا تصل خليّة هادلي الى منطقتنا في فصل الشتاء ويمكن أن تهطل الأمطار في بلادنا. يوم ماطر في تل أبيب | Shabtay, Shutterstock

شتاء عاصف قصير

في أعقاب ارتفاع تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوّيّ، فإنّ خليّة هادلي آخذة في الاتساع، ومن المتوقّع أن يتحرّك فرعها الهابط، الذي يكوّن الشريط الصحراويّ العالميّ، شَمالًا. كيف ستؤثّر هذه الظاهرة على الرواسب في البلاد؟ 

لن يكون هناك تأثير ملحوظ لهذا الاتّساع في فصل الصيف، حيث أنّ صيف بلادنا، بطبيعة الحال، جافّ تمامًا تقريبًا. لن يصل فرع الخليّة الهابط حتى بلادنا في فصل الشتاء، حتّى وإن أخذنا الاتّساع المستقبليّ في الحسبان. لذا من المتوقّع، عندما تتّسع الخليّة، أن يحدث الجفاف الحادّ في الفصول الانتقاليّة بالذات. لن يقتصر كبح الأمطار الناجم عن الخليّة على أشهر الصيف، يونيو/ حزيران حتّى أيلول/ سبتمبر، وإنّما سوف يتقدّم اتّساع الخلية شمالًا ويمنع هطول الأمطار قبل هذه الفترة وبعدها أيضًا. ستتقلّص فترة فصل الشتاء بسبب وصول خليّة هادلي بلادنا لفترة زمنيّة متزايدة، من سنة إلى أخرى. 

بذلك نكون قد توصلّنا إلى نتيجتين: استنتجنا من معادلة كلاوزيوس - كلابيرون أنّ الأمطار ستكون أكثر شدّة وغزارة في المستقبل، لأنّ الغلاف الجوّيّ يحتوي على كمّيّة أكبر من الماء، واستنتجنا، من اتّساع خليّة هادلي، أنّ الرواسب في الفصول الانتقاليّة في بلادنا ستقلّ، وكذلك عدد الأيّام الماطرة. ما الذي يحدث بالفعل؟ هل هذه هي التغييرات التي تمّ قياسها؟ 

وجدت مجموعة من الباحثين من الجامعة العبريّة وجامعة تل أبيب، أنّ عدد الأيّام الممطرة في إسرائيل انخفض، وما زال، بمعدّل حوالي اثنين بالمائة لكلّ عقد منذ سنة 1975، لكنّ شدّة وغزارة الأمطار في الأيام الممطرة زادت بمعدل حوالي اثنين بالمائة في كلّ عقد من السنين. تتوقّع هذه الدراسة أن تشتدّ غزارة الأمطار، لكن عدد الأيام الممطرة سيتقلّص بمعدّل سبعة أيّام ​​كلّ عام، وتكون كمّيّة الرواسب السنويّة متماثلة. توصلت خدمة الأرصاد الجوّيّة إلى استنتاجات مشابهة

كما وجد الباحثون أنّ عدد الأيام الممطرة خلال الفصول الانتقاليّة، انخفض بمعدّل ضِعفيْن، نحو خمسة بالمائة خلال عقد من الزمن. يتوافق هذا الاتجاه في انخفاض عدد الأيام الممطرة مع التوقعات التي تعتمد على اتساع خلية هادلي. وبالتالي، تتيح لنا التغيرات في مستويات الرطوبة وأنظمة الرياح، أن نتوقّع كيفيّة تغيُّر أنماط هطول الأمطار في البلاد نتيجة لانبعاثات غازات الدفيئة. لقد اتّضح لنا أنّه يمكننا فهم معظم أنماط الأمطار في إسرائيل، والتنبّؤ بها بمساعدة مبادئ علميّة أساسيّة، وليس بمساعدة نماذج محوسبة ومعقّدة فحسب.

 

0 تعليقات