هل يشعر جميع البشر بالاشمئزاز من الأشياء ذاتها؟ لماذا تطوّرت لدينا مشاعر الاشمئزاز؟ وما هي الأشياء، إن وُجدت، الّتي تثير الاشمئزاز في الحيوانات الأخرى؟

ما الّذي يثير اشمئزازك؟

 قد تختلف الإجابة عن هذا السّؤال من شخص لآخر بعض الشّيء، إلّا أنّ الأمور الرّئيسيّة الّتي تثير الاشمئزاز لدينا مشتركة بين جميع البشرتقريبًا. نحن نشمئزّ من اللّحم الفاسد الّذي يحتوي على ديدان، ومن الفواكه الفاسدة والمتعفّنة. نشعر بالغثيان عند رؤية جرح ملوّث ومليء بالعفن، حتّى رائحة الفضلات أو القيء كافية لإثارة الاشمئزاز لدينا. كذلك، لمس شيء لزج أو مخاطيّ يمكن أن يثير هذا الشّعور لدينا.

يتجاوب البشر على تنوّع ثقافاتهم  بشكل مشابه الى حدّ ما تجاه الأشياء الّتي تثير اشمئزازنا، إن كان ذلك بترديد أصوات "إيك"، أو بتغيير إنطباعات وجوهنا بتضييق العيون وعقد الشّفاه، حتّى القيء في الحالات القصوى. إلّا أنّ السّلوك العامّ الأكثر شيوعًا هو النّفور، فنحن نبتعد بسرعة عمّا يثير اشمئزازنا وما لا نريد أن نراه، نشمّه، نكون بالقرب منه، وبالتّأكيد لا نريد أن نلمسه.

ما الغاية من مشاعر الاشمئزاز؟ يرجّح أن يكون شعور الاشمئزاز ناتجًا لعمليّة التّطوّر نظرًا لأهمّيّتها والأفضليّة الّتي تحقّقها للكائن الحيّ كما هو الحال مع جميع مشاعرنا. ويتّضح الأمر في الفيلم المبهر "قلبًا وقالبًا" مع بيكسار، حيث نلتقي "بالاشمئزاز" كأحد المشاعر الرّئيسيّة الخمس والّتي تنشط في ذهن فتاة اسمها رايلي. يوضّح لنا الفيلم أنّ الاشمئزاز "يحمي رايلي من التّسمّم بشكل مبدئيّ". وهذا صحيح إلى حدّ كبير على الرّغم من أنّه من الأدقّ القول إنّ مشاعر الاشمئزاز تحميها وتحمينا جميعًا من المرض ومسبّباته.

شخصيّة "الاشمئزاز" في فيلم "قلبًا وقالبًا":

القرف - ظاهرة عالميّة

ترى النّظريّة الشّائعة أنّ مشاعر الاشمئزاز تطوّرت كآليّة دفاع ضدّ مسبّبات الأمراض، وهي جزء مهمّ من "نظام المناعة السّلوكيّ"، أي تلك الآليّات الّتي تقودنا للتّصرّف بطريقة تحدّ من خطر إصابتنا بالأمراض. وعلى هذا النّحو تقينا هذه المشاعر من تناول الطّعام الفاسد أو التّالف، ومن سوائل الجسم الّتي قد تحتوي على بكتيريا، فيروسات، أو طفيليّات أخرى.

في دراسة نُشرت عام 2004، حاول الباحثون الكشف عن العلاقة بين الشّعور بالاشمئزاز والأمراض، وكيف يعتبر هذا الشّعور شائعًا على مستوى العالم. تخلّلت الدّراسة حوالي بيانات 40,000 مشترك من أنحاء متفرّقة حول العالم بعد أن قاموا بتقييم مجموعة من الصّور حسب مدى الاشمئزاز الّذي شعروا به تجاهها. تمّ تقديم هذه الصّور في أزواج مثل: سائل يشبه البول مقابل سائل أزرق، جرح مفتوح وملوّث مقابل ندبة بنفس الحجم، شخص يبدو بصحّة جيّدة مقابل الشّخص نفسه يبدو عليه العرق والمرض، وغيرها. أظهر البحث بشكل متتابع ردود فعل المشاركين بغضّ النّظر عن خلفيّاتهم الثّقافيّة، حيث صنّفوا الصّور المرتبطة بالمرض أو العدوى على أنّها أكثر إثارة للاشمئزاز مقارنة بالصّور الأخرى. ونظرًا لأنّ هذه الأشياء تثير الاشمئزاز فينا، فإنّنا نميل إلى تجنّبها، ممّا يجعلنا في النّهاية أكثر صحّة.

تتجلّى صحّة  النّظرية هذه بمجرّد التّمعّن في ثقافات مختلفة جدًّا عنّا. وتأكيدًا لذلك فحص باحثون من الولايات المتّحدة العلاقة بين الاشمئزاز والأمراض لدى أفراد قبيلة الشوار (Shuar)، الّذين يعيشون في غابات الأمازون بالإكوادور، حيث طُلب من 75 شخصًا وصف ما يثير اشمئزازهم، ومدى ما يبذلونه من جهد لتجنّب هذه الأشياء المقرفة. كانت  الأجوبة التي قدّمها أفراد الشوار مشابهة جدًّا لتلك الّتي قد يقدّمها الأمريكيّون أو الإسرائيليّون. كما أفادت تارا سيبون-روبينز (Cepon-Robins)، الباحثة الّتي قادت الدّراسة، للناشيونال جيوغرافيك: "إنّهم يشمئزّون بشكل أساسيّ من أشياء مثل الدّوس على الفضلات". فحص الباحثون بالإضافة إلى ذلك عيّنات دم وبراز من هؤلاء الأشخاص، ليجدوا أنّهم كانوا أكثر حساسيّة لمشاعر الاشمئزاز، وبالتّالي يتجنّبون قدر الإمكان الأشياء المقرفة، وقد أصيبوا بالفيروسات والبكتيريا بمعدّلات أقلّ. ومن هنا يمكننا القول بثقة إنّ "نظام المناعة السّلوكيّ" يعمل بالفعل.


 يصبح مقرفًا حالما ينفصل عن الجسم. كومة شعر عالقة في الأنابيب.| المصدر: JRJfin, Shutterstock

اِشمئزاز الحيوانات

بالطّبع، ليس البشر الكائنات الوحيدة الّتي تصاب بالأمراض. فإذا كانت مشاعر الاشمئزاز قد تطوّرت لحمايتنا، فمن المتوقّع أن نشهد ذلك عند الحيوانات الأخرى أيضًا . فهل تشعر الحيوانات بالاشمئزاز مثلنا؟

لا يمكننا سؤال فأر أو ذبابة عمّا يشعران به عند رؤية طعام فاسد، لكن يمكننا مراقبة سلوكهما وفحص ما إذا كانا يتجنّبان العوامل المسبّبة للأمراض ويبتعدان عنها. وبالفعل أظهرت العديد من الدّراسات أنّنا نتشارك مع الحيوانات الأخرى بعدد من العوامل البغيضة الّتي نراها وتثير اشمئزازنا.

يشكّل البراز عامل الاشمئزاز الرّئيسيّ عند الحيوانات، والعديد منها يتجنبّه، أو على الأقلّ يمتنع عن تناول الطّعام الملوّث بالبراز. تفضّل الأغنام أن ترعى في مراعي العشب الخالية من البراز، وكذلك الكنغر الرّماديّ الشّرقيّ (Macropus giganteus)، الّذي يتحرّك بعيدًا عندما يصادف منطقة ملوّثة بالفضلات ولا يتوقّف للأكل هناك.


تناول فاكهة مضرّة بالصّحّة. فواكه فاسدة| المصدر: BeataGFX, Shutterstock

تعدّ القرود من الحيوانات الّتي تتمتّع بمشاعر اشمئزاز مشابهة لتلك الّتي يشعر بها البشر. تُظهر القرود في بعض الأحيان ردود فعل قويّة تجاه البراز، ممّا يشير إلى وجود مشاعر اشمئزاز قد تكون مشابهة لتلك الّتي يشعر بها البشر. ونقلًا عمّا ذكرت عالمة الرّئيسيّات (القرود والقرود البدائيّة) سيسيل ساربيان لمجلّة "The Atlantic"، أنّها شهدت حالة لقردة (أنثى) مكاك يابانيّة داست على كومة من الفضلات (براز) بالخطأ أثناء تجوالها على شاطئ البحر. نظرت القردة إلى قدمها وأدركت ما حدث، وما لبثت القردة أن بدأت تتصرّف بطريقة كأنها فقدت صوابها، فهربت على طول الشاطئ بسرعة، محتفظة بالقدم الّتي لمست الفضلات مرفوعة في الهواء، حتّى وصلت إلى جذع شجرة، حيث بدأت بفرك قدمها مرارًا وتكرارًا وشمّها حتّى تخلّصت من كلّ الأوساخ.

وفي مقال نُشر عام 2020 قام الباحثون بالنّظر في سلوكيّات القردة العليا فيما يتعلّق بتجنّب العوامل "المقرفة" من خلال مراجعة تقارير من 75 باحثًا ومربّيًا لهذه القردة . وهنا برزت، ضمن أمور أخرى، العديد من القصص عن قرود الإنسان الّتي تسرع لمسح وتنظيف جزء من أجسادها فور ملامستها الفضلات عن طريق الخطأ، وتتجنّب تناول الطّعام الّذي لمس الفضلات، وتبتعد عن الرّوائح الكريهة. بالإضافة إلى القصص، هناك أيضًا دراسات فحصت الموضوع بشكل منهجيّ، ووجدت على سبيل المثال أنّ قرود المكاك اليابانّية تتجنّب تناول القمح الّذي كان موضوعًا على الفضلات أو حتّى على نموذج بلاستيكيّ للفضلات، وأنّ قرود البونوبو تفضّل الفواكه النّظيفة وترفض تلك الملوّثة بالفضلات.

اِشمئزاز القرود البشريّة 

على نقيض القردة العليا، تبدو قرود الشّمبانزي، المصنّفة ضمن القرود البشريّة، أقلّ انتقائيّة. فعندما قُدّم لها طعام موضوع فوق نموذج بلاستيكيّ يحاكي "الفضلات"، تردّدت في البداية، ولكنّها أقدمت على تناول الطّعام في النّهاية، وكذلك الحال عندما انبعثت رائحة الفضلات أو الدّم من البيئة المحيطة بالطّعام. بالمقابل، تثير الموادّ ذات الملمس النّاعم والرّطب لديها النّفور والاشمئزاز. في هذه التّجربة، وضع الباحثون الطّعام داخل صندوق مغلق مزوّد بفتحة، ممّا سمح لقرود الشّمبانزي بإدخال أيديها داخل الصّندوق دون أن ترى ما بداخله. تمّ وضع قطعة الطّعام على عجينة رطبة، ولم تستطع الشّمبانزي أن تأخذها دون لمس العجينة. النّتيجة كانت أن تخلّى العديد منها عن الطّعام بعد أن لمست المادّة "المقزّزة". يُظهر الفيديو قردة شمبانزي تُدخل يدها في الصّندوق، تشمّها، تُعيد إدخالها مرّة أخرى، وتقرّر أخيرًا أنّ الأمر لا يستحقّ العناء.

"الأمر المدهش في هذه التّجارب هو أنّ ردود الفعل جرّاء لمس العجينة مشابهة جدًّا لما كنّا سنشعر به في موقف مماثل". هذا ما قاله أندرو ماكنتوش (MacIntosh) الّذي قاد الدّراسة، في بيان صحفيّ، بل أضاف: "هذا يشير إلى أنّ الآليّة الّتي تؤدّي الى هذا السّلوك قد تكون مشابهة للآليّة لدينا".

تتأثّر معظم القرود البشريّة بوجود الفضلات إلى حدّ ما وتبعتد عنها، ولكنّها في الوقت نفسه لا تبتعد عن الأفراد المرضى في مجموعتها، وهو سلوك يطابق السّلوك الشّائع عند العديد من الحيوانات الأخرى. فالفئران، على سبيل المثال، تنفر من أفراد مجموعتها الّتي تفوح منها رائحة الأمراض الفيروسيّة، حتّى السّرطانات القشريّة باستطاعتها أن تتعرّف إلى الأفراد المرضى وتبتعد عنهم. Panulirus argus هو نوع من السّرطانات النّشطة ليلًا. تقضي هذه السّرطانات النّهار في رفقة أفراد من نوعها، مختبئة في الشّقوق داخل الصّخور، أو في مخابئ بين الشّعاب المرجانيّة والإسفنج، وأظهرت الدّراسات أنّها تغادر مخابئها وتباشر البحث عن مخابئ أخرى بمجرّد انضمام فرد مريض إليها.

أما بالنّسبة للقرود البشريّة، فترتقي لديها العلاقات الاجتماعيّة الى درجات عليا،  أكثر من السّرطانات أو الفئران. وقد يكون هذا هو السّبب في أنّها عازمة على الاعتناء في أصدقائها المرضى، إذ يقضون الوقت معهم على الرّغم من المخاطر الّتي قد يتعرّضون لها.


لعلها تكون قشطة الشّوكولاتة؟ فضلات كلب| المصدر: sonsart, Shutterstock

الحيوانات الّتي تأكل القرف

من السّهل رؤية تطوّر خاصّيّة تجنّب العوامل النّاقلة للأمراض. كانت الحيوانات الّتي ابتعدت عن الفضلات والعدوى أقلّ مرضًا، وعاشت فترة أطول، وأنتجت المزيد من النّسل، في المتوسط، من تلك الّتي لم تهتمّ بالنّظافة العامّة ولا بالنّظافة الشّخصيّة. تطوّرت هذه الخاصّيّة لدينا وتجلّت كإحساس بالاشمئزاز.

لكن إذا كان كلّ هذا صحيحًا، لماذا لا تبتعد العديد من الحيوانات عن مسبّبات الأمراض؟ لنأخذ الكلاب مثلًا، فهي تميل إلى شمّ بعضها البعض في منطقة الشّرج وأعضاء التّناسل، وتقضي وقتًا طويلًا في شمّ البول اّلذي تركته كلاب أخرى. ويعتبر هذا السّلوك شائعًا جدًّا في عالم الحيوان، على الرّغم من ملامسة وجه الحيوان وفمه الإفرازات وأعضاء الجسم الّتي قد تكون ملوّثة بالبكتيريا أو الفيروسات. وفي حين يبدو هذا مقزّزًا بالنّسبة لنا، لا تنزعج الكلاب بهذا الأمر على الإطلاق، فهي لا تفعل ذلك لأنّ الرّائحة تعجبها فحسب، بل لانّها تحصل بهذه الطّريقة على معلومات قيّمة ومهمّة حول حالة الكلاب الأخرى في المنطقة، هل هناك أنثى شبقة؟ متى كان الذّكر الكبير والقويّ في المنطقة آخر مرّة؟ والمزيد. قد لا يكون هذا السّلوك ذا أهمّيّة لدى الكلاب المنزليّة، فهذا لا يؤثّر على قدرتها على التّكاثر، لكن في الماضي هذه المعلومات كانت هامّة جدًّا.

ماذا عن الحيوانات الّتي تتغذّى على الفضلات؟ قد نرى هذا السّلوك لدى الكلاب أحيانًا، ولكن هناك حيوانات تجعل من ذلك جزءًا أساسيًّا من نظامها الغذائيّ. ولسنا نتحدّث هنا عن الحشرات فحسب، مثل الخنافس الرّوثيّة الّتي تستمدّ حياتها من الفضلات، بل الأمر يمتدّ ليشمل الأرانب الّتي تميل إلى تناول فضلاتها بانتظام. يعود سبب ذلك إلى أنّ النّباتات الّتي تتناولها الأرانب عسيرة الهضم، ممّا يجعل فضلاتهم غنيّة بالموادّ النّباتيّة الّتي ما زالت تحتفظ بقدر كبير من السّعرات الحراريّة والمغذّيات. "إذًا، يعيدونها لجولة أخرى في المعدة"، كما ذكر الباحث الأمريكيّ كيفن هانت لناشونال جيوغرافيك. "لديهم نوعان من الفضلات: نوع يأكلونه وآخر لا يأكلونه". حتّى الحيوانات العاشبة الأخرى قد تلتهم الفضلات لاستخلاص المزيد من السّعرات الحراريّة منها، بما في ذلك الشّمبانزي الّتي شوهدت وهي تأكل البذور من فضلاتها.

كذلك الأمر عند العديد من الأنواع العاشبة، من الفيلة وفرس النهر إلى الكوالا، حيث شوهدت صغارها تتناول فضلات أمّهاتها أو فضلات أفراد آخرين في القطيع وهم في مراحل نموّها الأولى. يمكّنهم هذا السّلوك من تكوين مستعمرة صحّيّة من بكتيريا الأمعاء الضّرورية تساعدها في تحليل النّباتات الّتي تتغذّى عليها. وفي حالات أخرى، عند الكلاب والقطط، تقوم الأمّهات بتناول فضلات صغارها الصّغيرة، محافظة بذلك على نظافة محيطها.


فاكهة ومصدر للبروتين في آن واحد. تفّاحة مغطّاة بذباب الفاكهة.| المصدر: Anne Webber, Shutterstock

اِتّفاق ودّيّ مع القرف

نلاحظ في كلّ هذه الحالات أنّ للحيوانات أسبابًا وجيهة لعدم تجنّبها الفضلات والإفرازات، قد يكون الكلب الّذي يرفض شمّ إفرازات كلاب أخرى أقلّ عرضة للمرض، ولكنّه لن يتمكن من معرفة الأحداث ضمن بيئته، وقد يفقد فرص التّزاوج، وسوف يعاني الأرنب الّذي يتحاشى فكرة تناول الفضلات من الجوع،  ولن يكتسب فيل صغير يتردّد في الاقتراب من فضلات أمّه البكتيريا المعويّة الحيويّة لصحّته. على الرّغم من المخاطر الصّحّيّة المرتبطة بتناول الفضلات أو حتّى شمّها، من المتوقّع ألّا تطوّر هذه الحيوانات إحساسًا مفرطًا بالاشمئزاز يدفعها لتجنّب كلّ تماسّ مع الإفرازات، إذ قد تؤدّي مثل هذه الخصلة إلى إيذائها بطرق أخرى.

هذا صحيح أيضًا بالنّسبة للحيوانات الأخرى، فقد تكون الحساسيّة المفرطة للأمور المقزّزة ضارّة. هل تذكرون القرود الّتي رفضت تناول القمح الموضوع على فضلات؟ تغلّبت هذه القرود على الاشمئزاز عندما قُدّم لها الفول السّودانيّ، طعام أغنى بالسّعرات الحراريّة وأكثر جاذبيّة، فقامت بتناوله. يبدو أنّ الحيوانات مستعدّة للتّنازل عن النّظافة، وهو أمر معقول عند التّفكير في صعوبة العثور في الطّبيعة على طعام نظيف ونقيّ.

عمومًا، يبدو أنّ الحيوانات، حتّى تلك الأقرب إلينا، لا تتأثّر بمسبّبات الأمراض بنفس الحساسيّة كما نتأثّر نحن. وهذا ما يتبيّن أيضًا من البحث الّذي شارك فيه العديد من الباحثين العاملين مع القرود البشريّة . "مقارنة بردود فعل البشر تجاه العوامل المثيرة للاشمئزاز، نجد أنّ ردود فعل القرود البشريّة غالبًا ما تكون أكثر اعتدالًا، مع وجود العديد من التّقارير عن حالات معاكسة كانت فيها القرود غير مكترثة لهذه العوامل"، كما كتب مؤلّفو الدّراسة.

يعزو الباحثون أحد أسباب ذلك إلى أنّ البيئة الّتي نعيش فيها نظيفة نسبيًّا، فنحن لا نضطرّ إلى التّعامل مع إفرازات وسوائل جسديّة للآخرين بشكل متكرّر. من المحتمل أنّه لو كنّا نعيش في بيئة أقلّ نظافة، لكنّا قد أبدينا حساسيّة أقلّ تجاه الأمور المقزّزة.


للفم أم للقمامة؟ يرقات ذباب الجنديّ الأسود.| المصدر: Upen supendi, Shutterstock

الاشمئزاز المكتسب

كما رأينا، هنالك الكثير من الّذي يثير اشمئزازنا نحن البشر، ويبدو أنّنا نولد مع ميول طبيعيّة للشّعور بالاشمئزاز منها. لكن، يمكننا أيضًا أن نكتسب الشّعور بالاشمئزاز، وهذا مرتبط بالثّقافة الّتي ننتمي إليها. أظهرت دراسة عام 2007 أنّ تعابير وملامح أوجه أشخاص آخرين عند النّظر إلى شيء معيّن تؤثّر على موقفنا تجاه ذلك الشّيء. فقد أبدى المشاركون تفضيلًا للأشياء الّتي نظر إليها العلماء بتعبير وجه مبتهج، ولم يرغبوا في الأشياء الّتي نظروا إليها بتعبير وجه يدلّ على الاشمئزاز. وبرزت هذه الظّاهرة حتّى عند الأطفال الصّغار، حيث يميل الرّضّع الّذين تتراوح أعمارهم بين 11 و 14 شهرًا لتجنّب اللّعب بلعبة بعد أن يظهر البالغون الاشمئزاز تجاهها.

أظهرت الدّراسات أنّه يتمّ معالجة المعلومات العصبيّة الصّادرة عن شمّ الرّوائح الكريهة في منطقة معّينة في الدّماغ مرتبطة بالإحساس بالاشمئزاز، وأنّ المنطقة ذاتها تنشط عند مشاهدة  مقطع فيديو يظهر شخصًا بتعبير وجه مشمئزّ. بمعنى آخر، إنّ مسارات الدّماغ الّتي نستخدمها عندما نتعّرض بأنفسنا لعامل مقزّز هي ذاتها الّتي تعالج مسبّبات الاشمئزاز لدى شخص آخر، وهكذا قد نبدأ بالشّعور بالاشمئزاز من شيء يثير الاشمئزاز لدى الآخرين.

قد تساعدنا قدرتنا على التّعلّم من الآخرين على ما يثير الاشمئزاز عندهم، في التّعامل مع مواقف جديدة، لنتجنّب أشياء لم نكن نتجنّبها في الماضي. طريقة أخرى للتّعامل مع الظّروف المتغيّرة هي أن نكون أكثر حساسيّة لمسبّبات الأمراض بشكل عامّ، وأن نحافظ على النّظافة أكثر في حالة زيادة خطر الإصابة بالأمراض. وبالفعل، أظهرت دراسة عام 2021 زيادة في الإحساس بالاشمئزاز، بالإضافة إلى ميل متزايد لغسل اليدين، نتيجة لجائحة كورونا.

على النقيض، قد يؤدّي التّعلّم من الغير إلى نتيجة معاكسة: قد نتوقّف عن الاشمئزاز من الأشياء الّتي كانت تثير اشمئزازنا في السّابق بمجرّد أن نرى أنّ والدينا أو أصدقاءنا يتعاملون معها بهدوء.ولعل هذا هو السّبب في أنّ بعض الثقافات تأكل أشياء تعتبرها ثقافات أخرى مقزّزة، كالحشرات والزّواحف حتّى الجبن المتعفّن. لنأخذ أفراد قبيلة الشوار في بيرو مثالًا لذلك، فهم أخبروا الباحثين أنّهم يشعرون بالإشمئزاز من الفضلات مثلنا تمامًا، ولكنّهم معروفون ايضًا بشرب الشيتشا، مشروب كحوليّ يُصنع عن طريق مضغ جذر الكاسافا. وجد الباحثون أنّ أفراد القبيلة لم يشعروا بالاشمئزاز من شرب مشروب كان في فم شخص آخر، طالما كان الشّخص بصحّة جيدة. "شرب الشيتشا من شخص مريض أو لديه أسنان فاسدة كان يثير الاشمئزاز لديهم"، قالت سيبون-روبينز. يمكن أن نرى أنّ التّعلّم الاجتماعيّ جعلهم يتغلّبون على الاشمئزاز الّذي كنّا سنشعر به من لعاب شخص آخر، لكنّ النّزعة الطّبيعيّة للشّعور بالاشمئزاز من مسبّبات الأمراض ما زالت موجودة لديهم.


هل نحن بحاجة الى الكفوف حقًّا؟ شعر في مصرف المياه.| المصدر: Hanna Taniukevich, Shutterstock

الحيوانات تتعلّم الاشمئزاز

هل القدرة على تعلّم ما يثير الاشمئزاز من الآخرين خاصّيّة في البشر؟ يبدو أنّها قويّة بشكل خاصّ عندنا، لكن قد تكون موجودة أيضًا إلى حدّ ما لدى أنواع أخرى. عالمة الرّئيسيّات (الثّدييّات العليا) كليمونس بواروت (Poirotte)، الّتي تعمل مع قرود المندريل (Mandrillus sphinx)، ذكرت لمجلّة The Atlantic أنّ بعض القرود تتجنّب تنظيف فروة أقاربها المرضى، بينما لا يهتمّ البعض الآخر. كان الابتعاد عن القرود المريضة، كما قالت بواروت، يظهر غالبًا في عائلات معيّنة، وتحديدًا في سلالات الإناث - أي كان مشتركًا بين الأمّ وأبنائها وأحفادها من بناتها. يبدو أنّ الحساسيّة للاشمئزاز تنتقل من الأمّ إلى أبنائها، ممّا يشير إلى إمكانيّة تعلّم القرود الصّغيرة ذلك من أمّهاتهم، على اعتبار أنّ الآباء ليسوا مشاركين في تربية الأبناء.

لذا، قد تتعلّم الحيوانات الاشمئزاز إلى حدّ ما أيضًا. ولكن، يبدو أنّ لديها أيضًا أساسًا فطريًّا للإحساس بالاشمئزاز، وهو أساس تطوّر على مدى مئات الملايين من السّنين، ويعمل كآليّة لإبعادنا عن مسبّبات الأمراض، والحفاظ على صحّتنا قدر الإمكان.

 

0 تعليقات