أتاحت السّلطات الصّحّيّة في بريطانيا استخدام التّعديل الجينيّ لعلاج الأمراض الوراثيّة. يستهدف العلاج الجديد المرضى الّذين يعانون من فقر الدّم المنجليّ والثلاسيميا بيتا، وهما مرضان يصيبان خلايا الدّم الحمراء
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
منذ أنْ بدأ استخدامه في بداية العقد الماضي، أحدث نظام تحرير الجينات كريسبر (CRISPR) ثورة في الأبحاث البيولوجيّة والوراثيّة. ويبدو أنَّ الوعد بدأ يؤتي ثماره في مجال العلاج الطّبّيّ أيضًا، بعد أن وافقت السّلطات الصّحّيّة في بريطانيا أوّل مرّة على العلاج الجينيّ باستخدام نظام كريسبر لعلاج الأمراض الوراثيّة.
فقر الدّم المنجليّ وثلاسيميا بيتا هما مرضان وراثيّان ناتجان عن خلل في الجين المسؤول عن إنتاج الهيموغلوبين - البروتين الذي يحمل الأكسجين في خلايا الدّم الحمراء. في المرضى الّذين يعانون من فقر الدّم المنجليّ، تتضرّر إحدى الوحدات الّتي تشكّل الهيموجلوبين. ونتيجة لذلك، يتشوّه الهيكل الدّائريّ لخلايا الدّم الحمراء، ويتحوّل شكله إلى شكل يشبه المنجل. في هذه الحالة، تميل الكريات إلى الالتصاق ببعضها البعض وتشكيل مجموعات من الخلايا، الّتي تصطدم في الأوعية الدّمويّة وتعيق إمداد الدّم المنتظم إلى أعضاء الجسم.
وهذه حالة خطيرة قد تتجلّى في ألم شديد، وتسبّب نخرًا في الأنسجة يوقف إمداد الأكسجين إليها. يمكن أنْ يؤدّي المرض إلى فشل كلويّ وارتفاع ضغط الدّم وصعوبات في التّنفّس حتّى السّكتة الدّماغيّة والوفاة.
يتشوّه الهيكل الدّائريّ لخلايا الدّم الحمراء ويتغيّر إلى شكل يشبه المنجل.
رسم توضيحيّ لخلايا الدّم الحمراء لدى مرضى فقر الدّم المنجليّ | Shutterstock, Naeblys
يتميّز مرض بيتا ثلاسيميا بنقص الهيموجلوبين، ويسبّب المرض التّعب، ضيق التّنفّس، اِضطرابات في ضربات القلب ومشاكل أخرى. حتّى الآن، يعتمد العلاج الرّئيسيّ لهذين المرضين على عمليّات نقل الدّم من متبرّعين أصحّاء، حيث يحتاج بعض المرضى إلى عمليّات نقل دم متكرّرة، عدّة مرّات في السّنة. العلاج البديل المحتمل هو زرع نخاع العظم من متبرّع سليم، والّذي سيحلّ محلّ نخاع العظم الأصليّ للمريض وينتج خلايا دم حمراء سليمة.
يتميّز بنقص الهيموجلوبين. رسم توضيحيّ لمرض الثلاسيميا بيتا | Shutterstock, Dee-sign
الالتفاف على الجين المعطوب
تمّت الموافقة على العلاج الجينيّ الأحاديّ في بريطانيا، والّذي من المتوقّع أن يلغي تمامًا حاجة معظم المرضى إلى عمليّات نقل الدّم والسّماح لهم بعيش حياة طبيعيّة. يعتمد العلاج على نظام كريسبر للتّحرير الجينيّ. تعتمد هذه التّكنولوجيا الجينيّة، الّتي تمّ تسجيل أوّل براءة اختراع لها فقط عام 2012، على آليّة دفاع ضدّ الفيروسات الّتي تطوّرت أثناء عمليّة التّطوّر في بعض أنواع البكتيريا. وباستخدام هذه الآليّة، الّتي تعرف كيفيّة تحديد مقاطع الحمض النّوويّ DNA الفيروسيّ وقطعها بدقّة كبيرة، طوّر العلماء أدوات تجعل من الممكن اختيار مقطع معيّن في المادّة الوراثيّة واستبدالها بمقطع آخر، وهي عمليّة تُسمّى التّحرير. يستغلّ الباحثون والأطبّاء هذه القدرة لهندسة الحيوانات والنّباتات لأغراض بحثيّة، إنتاج الغذاء والتّنمية الصّناعيّة، ويستخدمونها اليوم لتغيير الحمض النّوويّ للبشر أنفسهم.
تمّ تطوير العلاج الجديد، المسمّى CASGEVY، خلال عمل مشترك بين شركة التّكنولوجيا الحيويّة الدّوليّة Vertex وشريكتها السّويسريّة CRISPR Therapeutics. بخلاف علاجات العلاج الجينيّ الأخرى قيد التّطوير هذه الأيّام، والّتي تحاول استبدال الجين المعطوب بنسخة طبيعيّة، فقد اختاروا طريقة مختلفة. وبدلًا من تصحيح الخلل نفسه، يقومون بتجاوزه وإعادة تنشيط الآليّة المسؤولة عن إنتاج الهيموجلوبين في الأجنّة.
يمتلك الهيموجلوبين الجنينيّ بنية مختلفة قليلًا عن الهيموجلوبين البالغ. عند مرضى فقر الدّم المنجليّ أو بيتا ثلاسيميا، لا يتضرّر بروتين الجنين، لأنّه لا يحتوي على المكوّن المتضرّر في كلا المرضين. ومع ذلك، مع اقتراب الولادة، يتمّ تنشيط الجين الّذي يؤدّي إلى وقف إنتاج الهيموجلوبين الجنينيّ واستبداله بالهيموجلوبين الطّبيعيّ. ويهدف العلاج الجديد إلى تعديل الجين المسؤول عن إنتاج هذا البروتين، بواسطة تحييده. وبسبب الأضرار الّتي لحقت به يتجدّد إنتاج الهيموجلوبين الجنينيّ.
ولهذا الغرض، يتمّ استخراج الخلايا الجذعيّة من نخاع عظم المريض، الّتي تتطوّر منها خلايا الدّم النّاضجة، بما في ذلك خلايا الدّم الحمراء، ويتمّ هندستها بمساعدة CASGEVY. بعد ذلك، يتمّ تدمير الخلايا الجذعيّة التّالفة الموجودة في نخاع عظم المريض والمسؤولة عن نقص إنتاج الهيموجلوبين، ويتمّ إرجاع الخلايا الجذعيّة المهندسة إلى المريض. اليوم، يمكن للخلايا الجذعيّة العودة إلى إنتاج الهيموجلوبين الجنينيّ. العلاج مناسب لكلا المرضين، لأنّه في كلّ من فقر الدّم المنجليّ والثلاسيميا بيتا، ينتج الاضطراب عن تلف مكوّن البروتين نفسه الّذي يميّز بين الهيموجلوبين الجنينيّ وبين الهيموجلوبين البالغ.
يتمّ استخراج الخلايا الجذعيّة من نخاع عظم المريض وهندستها. بعد ذلك، يتمّ تدمير الخلايا الجذعيّة التّالفة في نخاع العظم، ويتمّ إرجاع الخلايا الجذعيّة المهندسة إلى المريض. رسم توضيحيّ لعمليّة العلاج | Monica Schroeder / Science Photo Library
يُظهر تقرير إخباريّ نُشر في مجلّة Nature أنَّ النّتائج المرحليّة للتّجربة السّريريّة للعلاج الجديد تبدو واعدة. وبعد مرور عام على استخدام الخلايا الجذعيّة المهندسة، أفاد 28 من أصل 29 مريضًا بفقر الدّم المنجليّ في التّجربة أنّ آلامهم قد توقّفت تمامًا. ومن بين مرضى الثلاسيميا بيتا الـ 42، لم يحتجْ 39 منهم لعمليّات نقل الدّم على الإطلاق، وانخفضت عمليّات نقل الدّم الّتي تلقّاها الثّلاثة الباقون بأقلّ من ثلث الكمّيّة الّتي كانوا يحتاجونها من قبل. كانت الآثار الجانبيّة خفيفة نسبيًّا - الغثيان، التّعب، الحمّى وزيادة خطر الإصابة بالعدوى - على غرار الأنواع الأخرى من زراعة نخاع العظم. ومع ذلك، من الصّعب التّنبّؤ بالمخاطر طويلة الأمد للعلاج الجينيّ باستخدام كريسبر، لذلك من المهمّ الاستمرار في مراقبة المرضى جزئيًّا مع مرور الوقت، لاستبعاد احتمال أنّ العلاج الجينيّ سوف يزيد من خطر الإصابة بسرطان الدّم.
وفقًا لتصريحات شركة Vertex، قد تمّت الموافقة على العلاج في المملكة المتّحدة للمرضى الّذين تبلغ أعمارهم 12 عامًا فما فوق والّذين لم يجدوا متبرّعًا مناسبًا لزراعة نخاع العظم. يوجد حاليًّا حوالي 2000 مريض في المملكة المتّحدة يستوفون هذه المعايير. وتقوم إدارة الغذاء والدّواء في الولايات المتّحدة ووكالة الصّحّة التّابعة للاتّحاد الأوروبيّ حاليًّا بمراجعة الموافقة على العلاج، ومن المحتمل أن تتوصّلا إلى قرار في الأشهر المقبلة.
لم يتمّ تحديد سعر العلاج بعد، لكن من المقدّر أنّ يصل إلى نحو مليوني دولار. من المحتمل أن يحدّ السّعر المرتفع من استخدامه، ولكن من المحتمل أنّه في البلدان الّتي لديها نظام صحّة عامّة عالي الجودة مثل إسرائيل وبريطانيا، سوف يتمّ شمل العلاج في سلّة الصّحّة بشروط معيّنة. على الرّغم من التّكلفة العالية، يجب التّذكّر أنَّ هذا العلاج يتمّ مرّة واحدة، ممّا قد يتيح للعديد من المرضى عقودًا من الحياة الصّحّيّة، وسوف يوفّر التّكلفة التّراكميّة لعلاجاتهم.