استغرقت رحلة اكتشاف البلّورات الضّوئيّة منذ رصدها حوالي مئة عام، مرَّت بسنوات من الإهمال وحتّى الاختراق العلميّ؛ لفهم ماهيتها وحتّى ابتكار تطبيقاتها. ما هي البلّورات الضّوئيّة؟ من اكتشفها؟ وكيف يمكن استخدامها؟
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
لماذا التّفاح أحمر؟ ولماذا الفراشات بيضاء؟ أو زرقاء بيضاء مثل الفراشة النّحاسيّة زرقاء اللّون، الّتي اختيرت مؤخّرًا كـ"فراشة إسرائيل"؟ ليست الإجابة متطابقةً في الحالتيْن. فبينما تتسبّب حُمرة التّفاح من جزيئات صبغيّة (خِضاب) موجودة في قشرته، تتلوّن أجنحة بعض الفراشات بفضل جهاز بصريّ، يتكوّن من مبانٍ بلوريّةٍ معقّدةٍ وصغيرةٍ. رغم اجتهاد الفيزيائيّين والباحثين لفهم هذا المبنى منذ القرن التّاسع عشر، إلا أنّ حقيقته لم تظهر إلّا قبل 35 عامًا، وصار يُعرف بـِ"البلّورات الضّوئيّة".
ظواهر مختلفة تمامًا. فراشة نحاسيّة زرقاء اللّون ترقد على تفّاحة حمراء | المصدر: Maks Narodenko, Alistair Hobbs, Shutterstock
بلّورات مجهولة
استطاع البشر منذ القدم استخدام خاصيّة انكسار الضّوء على أسطح بعض الموادّ، لصناعة المرايا، دون أن يملكوا أيّ تفسير لهذه الظّاهرة. واستمرّ هذا الحال حتّى عام 1888، حين نشر الفيزيائيّ البريطانيّ جورج سترات (Strutt)، والّذي يُعرَف أيضًا باسم اللّورد رايلي (Rayleigh)، مقالة علميّة تفسّر هذه الظّاهرة.
أشار رايلي في مقالته إلى وجود علاقة ما بين زاوية اصطدام الضّوء على سطح البلّورات، ولون الضّوء المنعكس من بعض المباني البلّوريّة. وقد توقّع وجود نطاق ضيّق ومحدود من الألوان الّتي يمكن أن تنبعث، نتيجةً لتداخل الضّوء والبلّورة. ومع أنّ مقالة رايلي لم تشمل أيّ معادلات أو صيغ، إلّا أنّها حقّقت له مركزًا مهمًّا في المجتمع العلميّ.
قام رايلي باستعراض الانعكاس البلّوريّ، باستخدام مرآة مكوّنة من طبقات متعاقبة من مادتيْن بلّوريتيْن مختلفتيْن. مع مرور الزّمن، بات يُعرف هذا النّوع هذا من المرايا باسم "مرآة براغ"، تيمّنًا بالعالِم وليام هنري براغ (Bragg)، الّذي درس ظاهرة انعكاس الضّوء من البلّورات، وفاز بجائزة نوبل للفيزياء مع ابنه. عند اصطدام الضّوء بمرآة براغ بزاوية مباشرة، فهو يصطدم عمليًّا بمبانٍ بلّوريّة بزوايا مختلفة، فينعكس بالتّالي جزء منه إلى خارج المرآة، بينما ينبعث الجزء الآخر إلى الجوانب على هيئة حزم من الأشعة، ليس نتيجةً لاصطدامها بالبلّورات فحسب، بل لاصطدام الموجات الضّوئيّة وتداخلها ببعضها البعض، ممّا يؤدّي إلى إنتاج ألوان جديدة.
مئة عام من العزلة. (من اليمين) اللّورد رايلي صاحب المنشورات العلميّة الأولى في مجال البلّورات الضّوئيّة عام 1888، سجيف جون وإلي يابلانوفيتس | المصدر: SCIENCE PHOTO LIBRARY, University of Toronto, UCLA
الأمواج الّتي تنبعث من البلّورات
لم تحظى ظاهرة انعكاس الضّوء من البلّورات بالاهتمام، ولم يبد أيّ عالم رأيه في الموضوع، في غضون مئة عام تقريبًا منذ نشر مقالة رايلي. واستمرّ هذا الحال حتّى عام 1987، حتّى نشر الفيزيائيّ الأمريكيّ النمساويّ، إيلي يابلونوفيتش (Yablonovitch)، بحثًا رائدًا في مجال البلّورات الضّوئيّة. بدأ اهتمام يابلانوفيتش في مجال البلّورات، حينما واجه مشكلةً في عمله مع أشعّة ليزر استخدمت للاتّصالات البصريّة، في مختبرات بيل (Bell) في الولايات المتّحدة. كان هذا اللّيزر يُرسل إشعاعات ذات تردّدات غير مرغوب فيها، مؤدّية بذلك إلى فقدان كمّيّة من الطّاقة. لاحظ يابلونوفيتش أنّ تردّدات معيّنة من الإشعاع، أي ألوان معيّنة من الضّوء، لا تؤدّي إلى خسارة الطّاقة، طالما يمرّ الضّوء عبر مرشّحات ضوئيّة (Optical filters) تقيّد تقدّمه.
استنتج يابلونوفيتش من ذلك أنّ للبلّورات الّتي تُنتج التّردّدات غير المرغوب فيها، خصائص مشابهة لتلك الّتي في البلّورات شبه الموصلة، (موادّ لها قدرة محدودة على نقل الكهرباء، وتقع بين الموادّ الموصلة والعازلة). جمع تفسير يابلونوفيتش ما بين مجالين - البصريّات وفيزياء الموادّ الصّلبة (وهو المجال الّذي يُعنى بالبلّورات) وأحدث بذلك نقلةً نوعيّةً في فيزياء شبه الموصلات، والتي مكّنت تطوّرات بليغة وجوهريّة في الحوسبة والتّكنولوجيا، بل وأحالت فيزياء المادّة الصّلبة إلى أكثر المجالات الفيزيائيّة تبحاثًا.
يكمن تفسير ظاهرة شبه الموصلات فيما يُعرف بـ"فجوة النّطاق/الطّاقة". تبعًا لنظريّة ميكانيكا الكمّ، توجد الإلكترونات في الذّرّة مستويات مختلفة ومحدّدة من الطّاقة. أمّا على مستوى الجزيئات، وهي ذرّات مرتبطة معًا، قد تكون للإلكترونات مستويات طاقة أكثر لتكون فيها. أمّا المادّة الصّلبة، وهي عبارة عن مجموعة متراصّة من الذّرّات، فهي تحوي نطاقات إضافية كاملة من الطّاقة، الّتي يمكن أن تُشغّلها للإلكترونات. يطلق على النّطاق صاحب الطّاقة الأعلى في درجة الحرارة المطلقة (صفر مطلق) "نطاق تكافُؤ"، وهو النّطاق الّذي تكون الإلكترونات فيه محدودةً، طالما لم تتلقَّ المادّة الصّلبة طاقةً خارجيّةً - طاقةً حراريّةً عادةً - بقدر يُساوي "فجوة النّطاق".
فإذا ما توفّرت طاقة خارجيّة للمادّة الصّلبة، يمكن رفع الإلكترونات من نطاق التّكافؤ إلى مستوى الطّاقة التّالي، والّذي يُعرف بـ"نطاق التّوصيل". عندما يكون نطاق التّوصيل قريبًا من فجوة الطّاقة، ينشأ تيّار كهربائيّ بفعل الإلكترون القافز والـ"فجوة" الّتي يتركها، وتصبح المادّة الصّلبة موصلة. أمّا في حال كان نطاق التّوصيل بعيد عن نطاق التّكافؤ، تكون المادّة عازلةً. عندما تكون فجوة النّطاق - الفجوة المحظورة - بين نطاق التّكافؤ ونطاق التّوصيل أصغر، يمكن للإلكترونات عبور الفجوة بين الموادّ، وبالتّالي تصبح المادّة شبه موصلة.
وفقًا ليابلونوفيتش، تتصرّف البلّورات الّتي تبعث التّردّدات غير المرغوب فيها، بشكل مشابه للموادّ شبه الموصلة، إلّا أنّ فجوة النّطاق في البلّورات، على النّقيض من أشباه الموصلات، صغيرة نسبيًّا، ومباني النّطاقات الإلكترونيّة فيها تمنحها خاصيّة الانعكاس الضّوئيّ البلّوريّ، عوضًا عن خاصيّة مصوليّة الكهرباء. ينعكس الضّوء في هذه البلّورات جزئيًّا وبشكل دوريّ، بناءً على الخصائص الدّوريّة للبلّورة، وتنشأ هكذا مجموعة متنوّعة من الألوان المرئيّة وغير المرئيّة.
حازت ورقة يابلونوفيتش العلميّة، والّتي قدّم فيها التّفسير لظاهرة البلّورات الضّوئيّة من خلال أربع صفحات فقط، على شعبيّة عاليّة، حيث اقتبِست أكثر من 20 ألف مرّة حتّى يومنا هذا. في نفس العام وبشكل مستقلّ، نشر سجيف جون (John)، عضو هيئة تدريس شابّ في جامعة برينستون، مقالًا رائدًا قدّم فيه تفسيرًا جديدًا لوجود تلك البلّورات. التقى يابلونوفيتش وجون، اللذان جاءا من تخصّصات بحثيّة مختلفة، لأوّل مرّة لتناول وجبة الغداء، وقرّرا معًا أن يطلِقا على موضوع أبحاثهما "البلّورة الفوتونيّة".
البلّور يوجّه الأشعّة المنعكسة بحيث تتقاطع وتتداخل مع بعضها البعض لتكوّن ألوانًا جديدة. بلّور ضوئيّ في مختبر يابلونوفيتش | تصوير من موقع مختبر إيلي يابلونوفيتش، بإذن منه.
الشّهادة المتأخّرة
صرّح يابلونوفيتش في حوار مع موقع معهد دافيدسون عن فترة اكتشافه قائلًا: "كان استخدام اللّيزرات الّتي تحوي مرايا من نوع براغ في تلك الفترة رائجًا جدًّا . كانت حزمة الإشعاع النّاتجة عن هذه اللّيزرات تتّجه عموديًّا على المرآة. ظنّ العلماء أنّ عمليّة انبعاث الأشعة التّلقائيّة داخل اللّيزر تتضاءل، ممّا يؤدّي إلى تقليل كفاءته. وسرعان ما لاحظت أنّ مرايا براغ تعمل بكفاءَة، فقط عندما يصطدم بها شعاع الضّوء بزاوية عموديّة، وليس هناك أيّ تحكّم على ما يحدث في الاتّجاهات الجانبيّة للمرآة. لذا قمت بتطوير نموذج يعتمد على نمط دوريّ في هذه الاتّجاهات، وذلك ببساطة عبر رسم نمط من الخطوط على ورقة".
تعتبر مرآة براغ في هذا السّياق النّموذج الأوّليّ والأبسط للبلّورات الضّوئيّة. يتكوّن الضّوء الّذي ينبعث جانبيًّا من حزمات أشعّة قد اصطدمت بالمرآة بزوايا مختلفة، ثم تعدّلت بفعل اصطدامها بالمرآة بزوايا متعدّدة، وبفعل اصطدامها ببعضها البعض، وتداخلها الّذي يؤدّي إلى توليد ألوان جديدة.
أضاف يابلانوفيتش: "عندما أغلقت جفوني وركّزت نظري، أدركت أنّ الخطوط على الورق ومرايا براغ العموديّة تندمج وتخلق بنية بلّوريّة، تشبه لوح الشّطرنج ثلاثيَّ الأبعاد. وبعد يوم أو يوميْن، أدركت أنّ هذه البنية قد تمكنني من إنشاء فجوة نطاق ثلاثيّة الأبعاد كاملة. لم يكن هذا المبنى اعتياديًا، وأدركت لحظتها أنّني أمام اكتشاف كبير".
اقترح يابلونوفيتش في البداية نموذج "فجوة النّطاق الفوتونيّة" (Photonic Band Gap) للبلّورات الفوتونيّة ثنائيّة الأبعاد. وقد كانت البلّورات ذات البعد الواحد آنذاك معروفة بالفعل - ألا وهي مرايا براغ. لكنّه لم يكتفِ بهذا، وبكوْنه فيزيائيًّا تجريبيًّا، تمكّن في عام 1991 من إنتاج بلورة اليابلانوفيت كأوّل بلّورة ضوئيّة ثلاثيّة الأبعاد، والتي سُمّيت باسمه. حتّى يومنا هذا، ما يزال إنتاج البلّور الضّوئيّ تحدّيًا يتطلّب دقّةً عاليةً.
"كنت محبطًا لأنّ المجتمع العلميّ لم يستطع الاكتشاف في البداية"، قال يابلونوفيتش. "لكن مع مرور الوقت، بدأ العلماء يقتنعون بالفكرة، وبعد نقاشات وتعديلات استمرّت نحو 15 عامًا، حظي المقال بشهرة واسعة. اليوم، يُشار إلى المقال أكثر من 500 مرّة سنويًّا في المجلات العلميّة". في الواقع، أصبحت قدرة الباحثين على هندسة البلّور الضّوئيّ والتّحكّم في خصائصه البصريّة موضوعًا محوريًّا، خاصّة مع النّجاح الّذي شهدته صناعة شبه الموصلات.
يعتبر إنتاج البلّورات الضّوئيّة ثلاثيّة الأبعاد مهمّة صعبة تقتضي قدرًا مهولًا من الدّقّة. بلورة ضوئيّة في مختبر يابلونوفيتش | تصوير من موقع مختبر إيلي يابلونوفيتش، بإذن منه.
من الطّبيعة إلى الصّناعة
بالإضافة إلى اليابلونوفيت الصّناعيّ ومرايا براغ، البلّورات الضّوئيّة موجودة في العديد من الأماكن في الطّبيعة أيضًا . فبالإضافة إلى أجنحة الفراشة النّحاسيّة زرقاء اللّون، يمكن العثور عليها مثلًا في الأشواك الّتي تغطّي فأر البحر (Aphrodita aculeata)، وهي دودة بحريّة من فصيلة الدّود البحريّة متعدّدة الأشواك، والّتي تتحلّى بأشواك وأهداب غاية في الجمال، نتيجًة لاحتوائها على البلّورات الضّوئيّة. كما أنّ هذه البلّورات هي المسؤولة عن الألوان الخلّابة لريش الطّاووس وجلد الحرباء متغيّر اللّون. حتّى الأوبال اللّامع، صنف من الأحجار الكريمة، يُستخدم في الحلي ويُنسب إليه خصائص غامضة، هو مثال آخر على بلّور ضوئيّ. تُدرس العديد من البلّورات الفوتونيّة في الطّبيعة، في مختبر دفير غور من قسم الجينوميّات الجزيئيّة في معهد وايزمان.
تطوّرت تطبيقات البلّورات الضّوئيّة كثيرًا في الثّلاثة عقود والنّصف، التي مضت منذ ثورة يابلونوفيتش وجون. يقول يابلونوفيتش: "يتمحور التّطبيق الرّئيسيّ هو في الضّوئيّات (فوتونيات) المبنيّة على السّيليكون، والّتي تحوي بلّورات ضوئيّة ثنائيّة الأبعاد في الشّرائح المستخدمة للاتّصالات البصريّة، والتي صُمّمت للاتصالات الداخلية في مراكز البيانات. وضعت هذه الشّرائح في معالج (CPU) شركة Luxtera، الّتي كنت من مؤسّسيها والّتي ضمّتها شركة سيسكو مؤخّرًا. ملايين شرائح البلّورات الضّوئيّة مثبّتة في مراكز المعلومات. لذلك، من المرجّح أنّه أيّ شخص يفتح بريدًا إلكترونيًا أو صفحة رقميّة، يستخدم شرائح من هذه البلّورات الضّوئيّة يوميًّا دون أن يعلم". كما تُستخدم البلّورات الضّوئيّة ذات البُعد الواحد في صناعة الطّلاء للعدسات، وتقنيات الطّلاء والحبر، وإنتاج الألياف والمستشعرات البصريّة.
كان للتّطوّر السّبق في اكتشافها قبل أن نفعل بزمن طويل. البلّورات الضوئيّة موجودة في ريش الطاووس (يسار) وفي جلد الحرباء | المصدر: itsmejust, Lutsenko_Oleksandr, Shutterstock
لماذا تطلّب الأمر حوالي 100 عام منذ أن نشر رايلي بحثه، لنتوصّل إلى القدر المعرفيّ المطروح في أعمال يابلونوفيتش وجون؟ "حسنًا، هذا غريب، خاصّة إذا أخذنا في عين الاعتبار، أنّ نموذج بنية النّطاقات الإلكترونيّة قد ظهر خلال هذه المئة عام، في حين تمّ تجاهل نظيرها في الفوتونيّات. يحسب هذا الإغفال للفيزيائيّين في مجاليْ الحالة الصّلبة والبصريّات على حد سواء، إذ أنّ العلماء الّذين عملوا في هذيْن المجاليْن نادرًا ما تفاعلوا معًا. ولم يطرأ التّغيير المنشود حتّى السّبعينيّات والثّمانينيّات، حيث ظهرت اللّيزرات شبه الموصلات والاتّصالات البصريّة. لذلك استغرق الأمر مئة عام".
نال إيلي يابلونوفيتش منذ ذلك الحين العديد من الجوائز والتّكريمات، ويشغل اليوم منصب بروفيسور في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وهو شخص ودود يزور إسرائيل كثيرًا، ويستمتع بالحديث مع الباحثين والطّلّاب دون أيّ تكلّف. من المؤكّد أنّه لم يتوقّع قبل 35 عامًا أنّ المشكلة الّتي كانت تزعجه في عمله ستؤتي ثمارها نظريًّا وعمليًّا بهذه الأهمية.