تتكوّن برْقات ضعيفة تسبق البرق الّذي نراه وتُمهّد له السّبيل. دراسة جديدة تُفسّر كيف يحدث ذلك.
كلّنا نعرف أنّ البرق يتقدّم على شكل خطّ متكسّر. لماذا يتقدّم بهذا الشّكل؟ تشغل هذه الظّاهرة العلماء منذ زمن طويل، كما أشغلتهم حقيقة أنّ البرق يتقدّم على امتداد كيلومترات باتّجاه الأرض، بعيدًا عن عين العاصفة، وذلك على الرّغم من أنّ الهواء عازل كهربائيًّا. نشر الباحثان جون لوكي (Lowke) وأندري سيلي (Szili) مؤخّرًا، مقالًا يلقي ضوءًا جديدًا على الغموض الّذي يكتنف هذه الظّواهر.
البرق هو إحدى الظّواهر الأكثر إثارة في الكرة الأرضيّة. يكنز البرق في داخله تيّارًا كهربائيًّا هائلًا تبلغ شدّته عشرات آلاف الأمبيرات، وقد تصل سرعته مائتي ألف كيلومتر في الثّانية الواحدة. تؤدّي الطّاقة الّتي ينقلها البرق إلى ارتفاع درجة حرارة الهواء إلى عشرات آلاف الدّرجات المئويّة، الأمر الّذي يؤدّي إلى تمدّد الهواء بسرعة فائقة. تتكوّن، نتيجة لذلك، أمواج من الصّدمات، تُصدر صوت الانفجار الّذي نسمعه، المعروف بالرّعد. تبقى غالبيّة البرق داخل السّحب أو بينها، وتصعب دراسته في هذه الأماكن. من الأسهل دراسة البرق الّذي يتحرّك نحو الأرض، إلّا أنّ كثيرًا من العمليّات الّتي تحدث فيه ما زالت غير مفهومة بما فيه الكفاية.
اِتّضح، مع اختراع الكاميرا وتطوّر أساليب التّصوير السّريع، أنّ البرق هو أكثر تعقيدًا ممّا يبدو للعين البشريّة. كشف التّصوير أنّ برقةً ضعيفةً نسبيًّا تظهر لبضع أجزاء من المائة من الثّانية، قبل تكوّن البرق القويّ الّذي نراه، وتتقدّم بمراحل متجزّأة أو متقطّعة باتّجاه الأرض. تتقدّم هذه البرقة "الضّعيفة" في كلّ مرحلة بضع عشرات الأمتار بومضة سريعة تستمرّ جزءًا من مليون من الثّانية، ثمّ تتوقّف، فتظلم بضع عشرات الأجزاء من المليون من الثّانية، وهكذا دواليك. تتقدّم البرقة في كلّ مرحلة باتّجاهٍ مختلف بعض الشّيء، كما أنّها تنقسم أحيانًا وتتشعّب إلى عدّة اتّجاهات. يصدر تيّار كهربائيّ هائل من الأرض عندما تصلها البَرقة - البرقة الشّديدة - وتضيء السّماء بوميض يُكَوّن الرّعد أيضًا. تتحرّك البرقة الشّديدة في المسار المتكسّر لِلبرقة الضّعيفة فيتكوّن القالب المعروف لنا. قد تظهر بَرقات أخرى في المكان نفسه بعد ذلك على الفور، وقد نراها على شكل ضوء يتبعه ظلام.
يكشف التّصوير السّريع صورة معقّدة لتكوّن البرق | تصوير دان روبنسون
يبدو أنّ البرقة الضّعيفة تُكوّن قناةً ذات توصيل كهربائيّ عالٍ - أي منطقة يمكن للتّيّار الكهربائيّ أن يجري من خلالها بسهولة. تتحرّك الإلكترونات عبر هذه القناة على امتداد البرقة الضّعيفة الّتي تتقدّم من السّحابة نحو الأرض، كما تمرّ البرقة الشّديدة الّتي تعلو من الأرض من خلال هذه القناة. يتطلّب التّوصيل الكهربائيّ العالي وجود جسيمات لها شحنة كهربائيّة وقادرة على التّحرك بشكل حُرّ، مثلًا إلكترونات قد انفصلت عن جزيئات الهواء. لكن ما الّذي يؤدّي إلى انفصال هذه الإلكترونات عن جزيئاتها؟ من المعروف أنّ الحقل الكهربائيّ الشّديد يمكنه أن يؤدّي إلى ذلك، إلّا أنّ الحقول الكهربائيّة الّتي قيست في المناطق المظلمة للبرق كانت أضعف من أن تقدر على فصل الإلكترونات عن جزيئاتها. لم يكن واضحًا حتى الآن ما الّذي يحدث لجزيئات الهواء ويتيح التّوصيل الكهربائيّ.
تكمن الإجابة، حسب أقوال "لوكي"، في جزيئات الأكسجين المُثارة: "عندما يُصادم الإلكترون الذي يحمل كمّيّةً كافية من الطّاقة جزيءَ الأكسجين فإنّه يؤدّي إلى إثارته إلى حالة معيّنة تنطلق منها إلكترونات عند التّلامس مع أيونات الأكسجين سالبة الشّحنة الكهربائيّة. هذه هي الإلكترونات الّتي تتيح التّوصيل الكهربائيّ".
توجد في واجهة البرقة الضّعيفة جسيمات من الماء والجليد، أصلها من السّحابة، سالبة الشّحنة الكهربائيّة. تؤدّي هذه الجسيمات إلى انطلاق القليل من الإلكترونات في محيطها فتتكوّن نتيجة لذلك ذرّات من الأكسجين تحمل إلكترونًا فائضًا - أي أيونات أكسجين سالبة الشّحنة الكهربائيّة. تصطدم هذه الإلكترونات، مع مرور الزمن، بالمزيد من جزيئات الأكسجين وتؤدّي إلى إثارتها. يزداد تركيز الإلكترونات المنطلقة من الأيونات سالبة الشّحنة الكهربائيّة مع ازدياد تركيز الجزيئات المثارة، وعندما يبلغ تركيز الإلكترونات المنبعثة ذروته، يتكون مقطع آخر من قناة التّوصيل يمكن للإلكترونات التّحرّك عبْره بحرّيّة.
يُعجّل الجهد الكهربائيّ العالي الّذي يتكوّن في طرف البرقة، في هذه المرحلة، من سرعة الإلكترونات ويتكوّن وميض من الضّوء لفترة قصيرة، ويظلم بعده المقطع، ثمّ تعود العمليّة برمّتها لتبدأ من جديد. تُكوّن جميع المقاطع معًا قناة توصيل ترجع عائدة إلى السّحابة. تعمل الجزيئات المثارة الموجودة داخل قناة التّوصيل على انطلاق الإلكترونات من الأيونات سالبة الشّحنة الكهربائيّة، وتتحرّك (أي الإلكترونات) بحرّيّة إلى أن تصطدم بجزيئات الأكسجين متعادلة الشّحنة الكهربائيّة وتنضمّ إليها، مكوّنةً أيونات جديدة سالبة الشّحنة الكهربائيّة. تبقى بذلك كمّيّة كبيرة من الإلكترونات حرّة الحركة في قناة التّوصيل طوال العمليّة دون الحاجة إلى الحقول الكهربائيّة العالية.
يتقدّم البرق بضع عشرات من الأمتار في كلّ مرحلة على شكل وميض سريع يستغرق جزءًا من مليون من الثّانية، ثمّ يتوقّف، ويُظلم لبضع عشرات من الجزء من المليون من الثّانية، وهكذا دواليك | الرّسم التّوضيحيّ: NOAA
تتواجد جزيئات الأكسجين المثارة، حسب لوكي، بحالة شبه مستقرّة، وتستغرق عودتها، بقوّاتها الذّاتيّة، إلى الحالة الاعتياديّة مدّة تقارب 45 دقيقة. أمّا عند حصول عاصفة برقيّة فإنّ الجزيئات تعود إلى الحالة الاعتياديّة خلال أقلّ من ثانية بسبب تصادمها مع جزيئات أخرى، إلّا أنّ هذه الفترة الزّمنيّة تكفي البَرقة لكي تُكوّن قناة التّوصيل وتمرّ من خلالها. تُفسّر هذه النّظريّة الجديدة كيفيّة تكوّن قناة التّوصيل، ويبدو أنّها تناسب التّوقّعات. توجد، على الرّغم من ذلك، حاجة لِقياسات أخرى من أجل البتّ بشكل قاطع بأنّ هذا هو الحلّ للغموض الّذي يكتنف الظّاهرة.
يضيف لوكي أنّه "من المهمّ فهم عمليّة تكوّن البرق من أجل تحسين سبل الوقاية منه. حقًّا، إنّه نادرًا ما يصيب البرق بني البشر، إلّا أنّه كثيرًا ما يُلحق أضرارًا جسيمة في المباني". أصبح فهم الآليّات الّتي هي أساس تكوّن البرق هامًّا جدًّا، خاصّةً في هذه الحقبة الزّمنيّة من التّغيّرات المناخيّة، الّتي تزداد فيها التّغيّرات الحادّة في حالة الطّقس، وتكثر إصابات البرق.