تُحفَظ جميع التعليمات (تقريبًا) الّتي تحدّد المبنى البيولوجيّ لأجسامنا في 23 زوجًا من الكروموسومات. فما هو الكروموسوم وكيف يؤدّي وظيفته؟
تحوي كلُّ خليّة في جسمنا تقريبًا نسخة كاملة من حمضنا النوويّ (DNA) بالكامل- جزيء طويل ومركّب يخزن بداخله المعلومات الجينيّة اللازمة لإنتاج البروتينات الضروريّة للأداء السليم لكلّ خليّة في الجسم. الاستثناءات الوحيدة هي خلايا الدم الحمراء المبنيّة بصورة مختلفة، وكذلك بعض خلايا الجلد والشعر البالغة الّتي تفقد حمضها النوويّ (DNA) بمرور الوقت.
يتكوّن الـ DNA من سلسلة طويلة من لبِنات البناء القصيرة الّتي تُسمَّى القواعد، أو للدقّة النيوكليوتيدات. نحن البشر لدينا حوالي ثلاثة مليارات زوج من النيوكليوتيدات في حمضنا النوويّ، وهي كميّة هائلة من المعلومات. تقع بأكملها تقريبًا داخل نواة الخليّة، وهي عضيّة صغيرة يبلغ معدّل قطرها حوالي ستة ميكرومترات (أجزاء من المليون من المتر). ومع ذلك، إذا قمنا بتمديد DNA في نواة خليّة واحدة إلى طولها الكامل، فسنجد أنّها تصل إلى مترين تقريبًا. يمكن مقارنة هذا الضغط المثير للإعجاب بلفّ خيط طوله 40 كيلومترًا داخل كرة تنس واحدة.
ما يتيح هذا الضغط الناجع هو بروتينات تُدعَى الهستونات. يلتفّ الـ DNA من حولها، وبالتالي يُضغَط بشكل كامل داخل النواة. كلّ قسم كهذا من المادّة الجينيّة المضغوطة يُسمَّى كروموسومًا.
رسم توضيحيّ لمركّبات موجودة في الكروموسوم- الجسيم النوويّ (بنية تحوي DNA وهستونات)، هيستون ولولب مزدوج لل-DNA | المصدر: VectorMine ,Shutterstock
أزواجًا أزواجًا
ينتقل الـ DNA لكلّ إنسان من كلا الوالدين البيولوجيّين. أثناء الإخصاب، ينضمّ 23 كروموسومًا في خليّة الحيوان المنويّ للأب إلى 23 كروموسومًا في بويضة الأم لتتشكّل الشحنة الجينيّة الكاملة للنسل. يتطابق 22 كروموسومًا في الشكل عند الأب والأم، وبالتالي تنتج أزواج متساوية في النسل. الزوج الأخير هو الكروموسومات النّوعيّة، الّتي يختلف تركيبها في الذكور عن الإناث: عادةً ما يكون للإناث كروموسومان X، بينما يمتلك الذكر كروموسوم X حصل عليه من والدته، وكروموسوم Y، أقصر، ورثه من والده. بالتالي، فإنّ كلّ خليّة باستثناء الجاميتات (البويضة والحيوانات المنويّة) تحوي 46 كروموسومًا، تتكوّن من 22 زوجًا من الكروموسومات الطبيعيّة (جسميّة) وكروموسومَيْن للنّوع.
إنّ شكل الكروموسومات ديناميكيّ ويتغيّر وفق الحاجة. في الكروموسوم مناطق تحوي جينات- وهي تسلسل تعليمات لإنتاج بروتين معيّن- والّتي تحتاجها الخليّة في وقت معيّن، إلى جانب تلك الّتي لا تحتاجها. على سبيل المثال، هناك جينات نشطة أثناء تطوّر الجنين، لكن لا حاجة إليها بعد الولادة.
تكون المناطق الّتي تحوي جينات تحتاجها الخليّة كثيرًا نسبيًّا أكثر انفتاحًا وأقلّ كثافة من المناطق الأخرى في الكروموسوم. يتمّ تحديد المناطق المفتوحة والمغلقة للكروموسومات وفق نوع الخليّة والظروف الّتي يتعيّن على كلّ خليّة التأقلم معها. على سبيل المثال، قد تكون المناطق الموجودة على كروموسوم معيّن مضغوطة ومنغلقة في الخلايا العصبيّة ومفتوحة في خلايا البنكرياس؛ لأنّها تحوي جينات مهمّة لوظائف البنكرياس الفريدة- مثلًا، إنتاج هرمون الأنسولين. هذه القدرة على اختيار الجينات الّتي يجب التعبير عنها في كلّ خليّة ضروريّة للأداء السليم للجسم.
تصل الكروموسومات إلى أقصى كثافة لها عندما تنقسم الخليّة إلى خليّتين متطابقتين، في عمليّة تُسمَّى الانقسام. قبل أن تنقسم الخليّة، تقوم بمضاعفة جميع الكروموسومات الموجودة فيها، بحيث تكون هناك نسخة كاملة من المادّة الوراثيّة بأكملها في كلّ من الخليّتين الجديدتين. أثناء الانقسام، تكون الكروموسومات أقصر بحوالي عشرة آلاف مرّة من طولها الطبيعيّ. في هذه الحالة، من السهل أيضًا رؤية الكروموسومات تحت المجهر.
نحو الانقسام الخلويّ، تصل الكروموسومات إلى أقصى كثافة ويمكن رؤيتها بعد ذلك تحت المجهر. كروموسومات (مصبوغة) لإنسان تحت المجهر الإلكترونيّ | المصدر: Science Photo Library
العيوب وآليّات الحماية
على أطراف الكروموسومات توجد مبانٍ تتكوّن من تسلسلات متكرّرة من DNA. هذه التسلسلات، الّتي تُسمَّى التيلوميرات، ليس لها أهميّة وراثيّة خاصّة بها، وتتمثّل مهمّتها في حماية أطراف الكروموسومات بحيث لا تلتصق ببعضها، وتمنع الضرر المحتمل للجينات. تتقلّص التيلوميرات في كلّ مرّة تنقسم فيها الخليّة، حتّى لا يتبقّى تيلومير واحد ولا تستطيع الخليّة الانقسام. من المقبول الآن افتراض أنّ هذه الآليّة للتّقلّص تلعب دورًا مهمًّا في عمليّة شيخوخة الخلايا.
الكروموسومات ضروريّة للأداء السليم لأجسامنا، لذلك فلا عجب أنّ العيوب فيها يمكن أن تضرّ بنا. قد تتجلّى هذه العيوب في بنية الكروموسوم أو في عدد الكروموسومات، أي فائض في الكروموسومات أو نقصانها.
أحد الأمثلة المعروفة لهذه العيوب هو متلازمة داون، الّتي تحدث عندما يولد الشخص بثلاث نسخ من الكروموسوم رقم 21 بدلًا من زوجٍ واحد. يتجلّى هذا الفائض في بنية الوجه النموذجيّة والإعاقة العقليّة التطوريّة وخطر الإصابة بعيوب القلب وأعراض أخرى. من ناحية أخرى، تنبع متلازمة تيرنر عن نقص في الكروموسوم. يتوفّر لدى المُصابات بالمتلازمة كروموسوم X واحد فقط، أو كروموسوم واحد كامل وآخر جزئيّ، لذا فهنَّ جميعًا إناث. تشمل الأعراض مشاكل في النموّ والعُقم ومشاكل في القلب وغيرها.
في بعض الأحيان قد يحدث أيضًا أن يتمّ نقل جزء من أحد الكروموسومات عن طريق الخطأ إلى كروموسوم آخر. مع ذلك، على الرغم من وجود المادّة الوراثية كاملةً، فإنّ وجودها، على ما يبدو، في المكان الخطأ يؤثّر في الوظيفة. مثال على هذا الاضطراب هو "كروموسوم فيلادلفيا" حيث يتّصل جزء من الكروموسوم 9 بطريق الخطأ بالكروموسوم 22. والنتيجة هي زيادة الميل للإصابة بسرطان الدم من النوع المُسمَّى ابيضاض الدم النخاعيّ المزمن.
إذن، الكروموسومات هي الشكل الّذي يتمّ فيه تنظيم وتخزين معظم الموادّ الوراثيّة في نواة الخليّة. هيكلها السليم ضروريّ لوظيفة الخلايا، الأنسجة والكائن الحيّ بأكمله.
تحتلّ دراسة الكروموسوم مكانًا مرموقًا في علوم الحياة، لذا فلا عجب أن تمّ مَنْح جائزتَي نوبل مختلفتَين للعلماء الّذين بحثوا في هذا المجال. في سنة 1933م فاز بالجائزة توماس مورغان (Morgan) لاكتشافه أنّ الجينات موجودة بالفعل على الكروموسومات وأنّ هناك صلة بين جينات معيّنة وبين الكروموسومات الّتي تتواجد عليها. في سنة 2009م، انضمّ كلّ من إليزابيث بلاكبيرن (Blackburn)، وكارول جريدر (Greider) وجاك زوستاك (Szostak) إلى الفائزين في أبحاثهم حول التيلوميرات.
تُرافِقنا الكروموسومات في كلّ مرحلة من مراحل حياتنا، ابتداءً من الحَمل، ومرورًا بسنّ البلوغ وحتّى الشيخوخة. كلّما فهمناها بعمق، نستطيع تسليط المزيد من الضوء وكشف النقاب عن مجموعة متنوّعة من الطرق الّتي تؤثّر فيها بحياتنا، وحتّى معالجة المشاكل المتّصلة بها مثل السرطان والشيخوخة.