جهودٌ عالميّة لتطوير بدائل للحليب.. من النّباتات أو من الخميرة المهندسة أو من الأنسجة الخلويّة
يبدو أنّ تغييراتٍ بعيدة المدى تمرُّ على سوق الحليب، وعلى صناعة الغذاء الحيوانيّ كافّةً. قد يشهد على ذلك الانخفاضُ الملحوظ في استهلاك منتجات الحليب، جنبًا إلى جنب مع ازدهار سوق بدائل الحليب. لا يعني ذلك بالضرورة تنحّي الحليب الطبيعيّ والأجبان المصنوعة منه من قوائم الغذاء في الأعوام القادمة، إلّا أنّها لن تستفردَ برّادات المتاجر والحوانيت.
يأخذنا التحسّن المستمرّ في الوسائل التي تزوّدنا بها العلوم والهندسة والبيوتكنولوجيا، إلى عتبة عصر لن نعود نحتاج فيه إلى الأبقار والغنم، للحصول على الحليب والأجبان. تعمل الشركات الناشئة (ستارت أب) في مجال التكنولوجيا الحيوية (البيوتك) بلا كلل، على تطوير طرق لإنتاج منتجات الألبان دون الحاجة إلى الحيوانات كمصدر للحليب. إلّا أنّ الطريق ما زالت طويلة نحو تحقيق هذه الغاية. توجد اليوم في الأسواق بدائل حليب من أصل نباتيّ بشكل خاصّ، إلّا أنّها ليست بديلًا كاملًا متكاملًا لاختلاف مُكوّناتها عن مُكوّنات الحليب. لا تحوي هذه البدائل بروتينات الحليب المعهودة، مثل الكازين وبروتين ماء الحليب (whey) التي تُكسب الحليب الطعم وإمكانيّة التجبين.
لا تكتفي التّكنولوجيا الحديثة قيد التّطوير بمحاكاة جزئيّة للحليب بهيئة الحليب من الأصل النباتيّ، إنّما تصبو لاسترجاع مكوّنات الحليب صناعيًّا دون الحاجة للحيوانات. سوف يُغيّر ذلك، إذا تكلّل بالنجاح، من قواعد اللّعبة في مجال صناعات الحليب والألبان.
لا يتوقّف التغيير عند هذا الحدّ. تدأب بعض الشركات في هذه الأيام على إنتاج حليب الأم صناعيًّا. يتعاظم الطّلب على حليب الأم وبدائله، وتشهد على ذلك الأزمة الأخيرة في سوق تركيبات حليب الأم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، اندلعت في أعقاب الإغلاق الفجائيّ لِمصنع كبير لإحدى الشّركات الرّائدة في هذا المجال في السّوق الأمريكيّ.
سنصبح قادرين على إنتاجها دون الحاجة للحيوانات. منتجات الحليب | تصوير: Evgrafova Svetlana, Shutterstock
الحليب صديقٌ وعدوّ
الحليب هو الغذاء الأوّل الذي يتناوله النّاس في حياتهم. يُزوّد الحليب الكثير من الاحتياجات الأساسيّة لتطوّر الطّفل ونموّه، فهو غذاء غنيّ جدًّا بالفيتامينات والبروتينات والدّهنيّات والمعادن وسُكّر اللاكتوز.
يحوي الحليب أيضًا المضادّات الحيويّة والبروتينات التي تُسهم في تطوّر جهاز المناعة لدى المولودين في بداية حياتهم.
يواصل معظم النّاس تناول الحليب بعد جيل الرّضاعة. دجّن بنو البشر الأبقار والأغنام والماعز خلال الثّورة الزّراعيّة، وازدهرت المجتمعات التي حظيت بانتظام تزويد الحليب الطازج لها، أكثر من غيرها. حظي أفراد هذه الجماعات، الذين تمكّنوا من هضم الحليب دون صعوبة، بأفضليّة كبيرة عن غيرهم، الأمر الذي زاد من احتمال بقائهم على قيد الحياة وتكاثرهم.
يحتاج جسم الإنسان، لهضم الحليب، إلى إنزيم (مُحفِّز حيوي) اللّاكتاز الذي يُحلّل جزيئات سُكّر الحليب، اللاكتوز. لا تستهلك الثدييات الحليب عادةً عند بلوغها، ويتوقّف جسمها عن إنتاج الإنزيم في مرحلةٍ ما، فيصبح الجسم حسّاسًا للاكتوز. هذا ما يحصل في أجسام معظم الأشخاص، إلّا أنّ طفرة وراثيّة يحملها 35% منهم، خاصّةً في الأماكن التي تطوّرت فيها صناعة الحليب مع الزّمن، تُمكّنهم من مواصلة إنتاج اللاكتوز بعد جيل الرّضاعة. ما زال، بالرّغم من ذلك، حوالي ثلثي الأشخاص البالغين حسّاسين للاكتوز بدرجة أو بأخرى، كما يعاني كثيرون من الحساسيّة لبروتينات الحليب التي قد تُشكّل خطرًا على حياتهم.
تؤثّر صناعة الحليب اليوم، خاصّةً الحظائر الضّخمة ذات المقاييس الصّناعيّة المستخدمة في تربية الأبقار الحلّابة وأبقار اللّحم للغذاء، في البيئة. تربية الأبقار على نطاق عالميّ مسؤولة عن ثلاثة بالمائة من مُجمل غازات الدّفيئة المنبعثة سنويًّا نتيجةً لفعاليّة الإنسان، ولها تأثيرٌ ملحوظ في التغيّرات المناخية العالمية. تَستغلُّ هذه الصّناعة، بالإضافة، مساحات شاسعة من الأراضي لتوفير الغذاء للحيوانات. تفيد مُعطيات من سنة 2012م أنّ ما يقارب ثلث التنمية الزراعية في العالم (البالغة 1.4 مليار طن في السنة) يُستخدم في إنتاج الغذاء لِمزارع الحيوانات بما فيها الأبقار الحلّابة.
علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على رفاهية الحيوانات والرّفق بها أيضًا. على البقرة أن تلدَ لِتقدر على إنتاج الحليب، ويقومون بإخصابها بضع مرّات في حياتها لهذه الغاية. تُفصل أمهات الأبقار عن العجول اللاتي ولدْن بعد الولادة بفترة قصيرة، الأمر الذي يؤدّي إلى ضغط كبير يؤثّرفي سلوك هذه العجول. تُرسَل البقرة الّتي يقلّ إنتاجها للحليب إلى الذبح فيما بعد.
تُقلّلُ بدائل الحليب الحاجة للأبقار. أبقار في انتظار الحلْب | تصوير: TaraPatta, Shutterstock
بدائل الحليب النباتيّة
بدأ استخدام بدائل الحليب التي تعتمد البروتينات النباتيّة قبل مئات السنين أو أكثر. بدأ تناول حليب جوز الهند قبل آلاف السنين، وورد ذِكر حليب اللوز في كتاب عربيٍّ عن الطّبيخ ألّفه محمد بن حسن البغداديّ في سنة 1226م، كما شربه الأوروبّيّون في العصور الوسطى ، كلّ ذلك قبل أن يُنتج الصينيون حليب الصويا في القرن الرابع عشر أو قبل ذلك. بدأ الإنتاج الصّناعيّ لِبدائل الحليب مع بداية القرن العشرين، وتتوفّر اليوم بدائل الحليب من مصادر نباتيّة مثل بروتينات الصّويا واللّوز والشّوفان وغيرها.
لا تُشكّلُ بدائل الحليب من المصادر النباتيّة البديل الأمثل للحليب الحيوانيّ، على الرّغم من استخدامها كبدائل سهلة من قبل أولئك الذين يمتنعون عن تناول الحليب العاديّ لأسباب صحّيّة أو أخلاقيّة. يختلف طعمها عن طعم الحليب الحيوانيّ، ولا يمكن تحضير الأجبان من معظمها بدون استخدام مواد مُثبِّتة. تحتاج معظم بدائل الحليب النباتيّة إلى المُكمّلات الغذائيّة مثل المعادن والفيتامينات، لتتساوى قيمتها الغذائيّة مع القيمة الغذائيّة للحليب الحيوانيّ.
قد تُقلّلُ بدائل الحليب، التي تعتمد على البروتينات النباتيّة جزءًا من المشاكل المرتبطة بالحليب الحيوانيّ، وعلى رأسها مخلّفات تربية الأبقار. تتيح هذه البدائل تناول مشروب بديل للّذين يعانون من الحساسيّة لِحليب البقر. لِمراحل إنتاج هذه البدائل تأثيرٌ ضارّ بالبيئة أيضًا، إذ تُستغلّ فيها مساحات كبيرة من الأراضي مع أنّها أقلّ من تلك المستغلّة في توفير الغذاء للأبقار، ومع أنّ غازات الدّفيئة المنبعثة أقلّ. أضف إلى ذلك، كمّيّة المياه الكبيرة المستهلكة في إنتاج حليب اللوز، مع أنّها أقلّ بالنّصف من كمّيّة الماء المستهلكة في تربية الأبقار.
يجد الأشخاص الذين يعانون من حساسيّة لحليب البقر مشروبًا بديلًا. الحساسية للاكتوز | المصدر: Macrovector, Shutterstock
التّخمّر الصناعيّ
أقيمت في الأعوام الأخيرة شركاتٌ كثيرة تعمل في مجال إنتاج بدائل الحليب الصناعيّة، التي تحافظ على طعم حليب البقر وقيمته الغذائيّة، وتقلّل الضّرر الذي يلحق بالبيئة. تُشكّلُ عمليّة التّخمير أو ما تسمّى مهنيًّا "بالتّخمّر الدّقيق" إحدى الطّرق التّكنولوجيّة الرّائدة في هذا المجال.
نقوم في عمليّة التّخمير، وهي طريقة قديمة جدًّا، بتنمية الخميرة أو غيرها من الكائنات الحيّة الدّقيقة، ويتمّ خلالها إنتاج جزيئات تؤثّر في طعم الغذاء وعلى صفات أخرى. تُنتَج بهذه الطريقة المخبوزات والأجبان "ذات الرّائحة الكريهة". تستهلك الخميرة السُّكّر، وتُنتج الغازات والكحول وموادّ أخرى، حسب نوع الخميرة.
تعتمد طريقة التّخمير الدّقيق على هندسة الخميرة، أو الكائنات الحيّة الدّقيقة الأخرى جينيًّا، بحيث تُنتج خلال تكاثرها بروتينات خاصّة منتقاة. يتمّ إدخال التّعليمات الخاصّة بإنتاج أحد بروتينات الحليب في مادّة الخميرة الوراثيّة، وتُعطى الخمائر ظروفًا مواتية للتّكاثر والنّمو، ويتمّ في النّهاية فصل البروتين النّاتج عن المواد الناتجة الأخرى من العمليّة. يُخلط البروتين بعد ذلك بالماء والدّهون والسّكّر والمكوّنات الأخرى الموجودة في الحليب العادي. يُستخدم السّكّر والدهون النّباتيّة، لتجنّب المنتجات المأخوذة من الحيوانات. يمكن، على سبيل المثال، إنتاج أجبان خالية من اللاكتوز.
الشركة الوحيدة حاليًّا التي تبيع منتجات الحليب التي تعتمد على التخمير الدقيق هي شركة Perfect Day، إلّا أنّ هناك العديد من الشركات الأخرى التي تسعى جاهدةً في تطوير مثل هذه المنتجات. تحاول شركات أخرى إنتاج بروتينات الحليب بوسائل أخرى غير الخميرة، إلّا أنّ هذه المحاولات لمّا تنضج بعد. أوقفت شركة Fantastic Farms في الآونة الأخيرة،على سبيل المثال، دراسةً تناولت إنتاج البروتينات بمساعدة النّباتات.
تنتج الخمائر المهندسة جينيًّا بروتينات الحليب. جهاز لتنمية الخلايا | تصوير: Andrew Brookes, National Physical Laboratory / Science Photo Library
حليب البقرة بدون بقرة
تعتمد طريقة أخرى لإنتاج الحليب، دون الحاجة إلى بقرة على قيد الحياة، استخدام الخلايا المُنتِجة للحليب. تعمل عدّة شركات جاهدةً، على إنتاج الحليب من نسيج خلويّ مُكوّن من خلايا الحليب عند البقرة. يأملون، بهذه الطريقة، إنتاج الحليب بنفس الطريقة التي يتكوّن فيها الحليب الطبيعيّ تمامًا، من غدد الحليب في ضرع البقرة، وذلك بخلاف طريقة التّخمير التي تُنتج فيها البروتينات فقط، وتُضاف إليها المواد الأخرى المختلفة الموجودة في الحليب الطبيعيّ. إنتاج الحليب من الأنسجة الخلويّة هو عمليّة متشعّبة، تشترك فيها أنواعٌ عِدّة من الخلايا ويكون الجهاز المناعيّ فعّالًا فيها، وهي إذًا مهمّة معقّدة تتصدّر واجهة البيوتكنولوجيا المعاصرة.
يمكن اعتماد نفس المبدأ لإنتاج حليب الأمّ الاصطناعيّ. تعمل شرِكتان في الوقت الحاضر على تطوير بدائل لحليب الأمّ، وتستخدم كلّ منهما تكنولوجيا مختلفة. تُطوّر شركة BIOMILQ برئاسة ميشيل إيجر وسائل لإنتاج الحليب من خلايا بشريّة، وتستخدم شركة Helaina برئاسة لارا كاتس طريقة التّخمير الدّقيق للغاية ذاتها. وقد صرّحت لارا كاتس في مقابلة لمجلة Forbes أنّ الشركة موجودة الآن في بداية مراحل التّجارب السريريّة على مُنتَجها، ويتحدّثون في شركة BIOMILQ بأنّهم نجحوا، لأوّل مرّة، في إنتاج حليب الأمّ في المختبر في سنة 2021م. يتزايد الطلب على حليب الأمّ وبدائله، ومن المتوقّع أن يكون الحليب المنتج صناعيًّا مشابهًا لحليب الأم الطبيعيّ بدرجة كبيرة، ويمكن أن يُشكّل بديلًا حقيقيًّا في الأسواق. ما يزال المنتج قيد الدراسة والتطوير وليس من المتوقّع، وفقًا لتصريحات الشركة، أن يعرض المنتج للبيع في الأسواق قبل سنة 2025م على أقلّ تقدير.
ما زال هذا المجال يخطو خطًى أوّليّة، ومن الصّعب التّنبّؤ متى سيصبح بالإمكان إنتاج حليب الأم من الأنسجة الخلويّة وهل سيكون استخدامه آمنًا وما هي تكاليف إنتاجه. يبدو، مع ذلك، أنّ المسألة مسألة وقت حتّى يصبح العلماء قادرين على تفكيك رموز هذا السّرّ، الأمر الذي من شأنه تقليص النّقص الهائل في حليب الأم وبدائله.
يساهم حليب الأمّ الاصطناعيّ في تقليص النقص في بدائل الحليب. مُرَكّبات غذائية للأطفال (مغ"ل) | المصدر: igra.design, Shutterstock
التكلفة والفائدة
يُشَكّلُ خفض تكاليف إنتاج بروتينات الحليب أحد التحدّيات الكبيرة في مجال الحليب الصناعيّ، ليصبح بالإمكان تسويق المنتجات التي تُنتج منه بسعر لا يزيد عن سعر منتجات الحليب الحيوانيّ. يستدعي ذلك مصانع يمكنها إنتاج كمّيّات تجاريّة من بروتينات الحليب. تقيم شركة remilk، على سبيل المثال، في هذه الأيّام أكبر مصنع لإنتاج بروتينات الحليب في العالم.
أفاد استطلاع واسع أجرته شركة Formo لِفحص جاهزيّة السّوق لمنتجات الحليب الصناعيّ، أنَّ الطّلب على هذه المنتجات قائم لدى النباتيّين والطّبيعيّين الذين يحاولون تقليل كمّيّات المنتجات الحيوانيّة التي يستهلكونها، والشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن الأربعين عامًا.
لم يكن مجال بدائل الحليب من قبل فعّالًا إلى هذه الدّرجة كما هو اليوم. تخطو شركات كثيرة في هذه الأيام خُطاها الأوّليّة، ويمكن أن نتخيّل الآن بدائل الحليب المطابقة تقريبًا للحليب الحيوانيّ تحتلّ مكانه على رفوف المتاجر في المستقبل القريب.
اتّجاه البحث عن بدائل للمنتجات الحيوانية والمطابقة لها هو اتّجاه أوسع بكثير من البحث عن بدائل الحليب، وهو غيضٌ من فيض. تتطلّع شركات كثيرة نحو تطوير بدائل لحوم البقر المستزرعة أو من النباتات، وبدائل الدّجاج والأسماك والبيض وحتّى العسل عن طريق إنتاجها داخل المختبرات. يزداد إدراك الناس للمشاكل التي يخبّئها المستقبل القريب للبشريّة، مع ازدياد التطوّر العلميّ وازدياد توفّر المعلومات. لذلك تُبذل جهود جبّارة لِلتقليل من التلوّث الذي نُكوّنه بأيدينا، ولِإيجاد طرق حكيمة وخضراء لتوفير الغذاء للبشرية المتزايدة باستمرار.