44 عامًا مرّت على اختراع الطّريقة الّتي يتحدّد فيها تسلسل الحامض النّوويّ، إحدى الاختراعات الخارقة في علم الأحياء. الطّريقة الّتي طوّرها فريدريك سانغر، أحد العلماء العُظماء في القرن العشرين والشّخص الوحيد الّذي حاز مرّتين على جائزة نوبل في الكيمياء

يعتبر البيوكيميائيّ الإنجليزيّ فريدريك سانغر مؤسّس البيوكيمياء الحديثة وعلم الوراثة الجزيئيّة. حصل على جائزة نوبل في الكيمياء مرّتين: في عام 1958 لمساهمته في تطوير طريقة لتحديد ترتيب الأحماض الأمينيّة (وحدات البناء الأساسيّة للبروتينات) في البروتين وتطبيقها على الأنسولين، وفي عام 1980 على تطوير طريقة لتحديد تسلسل النوكلؤوتيدات (وحدات البناء الأساسيّة للأحماض النوويّة) في سلسلة ال- DNA.

لم يبرع في الحساب

سانغر، الّذي ولد في 13 من آب عام 1918 في قرية صغيرة في مقاطعة جلوسترشاير، اكتسب شغفه للعلوم من والده الّذي كان طبيبًا. تسجّل لجامعة كامبريدج لدراسة الكيمياء والفيزياء، لكنّه وجد صعوبة في الدّراسة بسبب خلفيّته الضّئيلة في الرّياضيات. نقطة التّحول الّتي دفعته إلى الأمام كانت عندما اتّخذ مساقًا اختياريًّا في الفيزيولوجيا، ومن بعدها في مجال البيوكيمياء الّذي كان في بدايته حينها. هنا تفوّق بالفعل واستمرّ في المجال حتّى حصوله على درجة الدّكتوراة. خلال أطروحته، بإرشاد البيوكيميائيّ ألبرت نويبرغر، درس عمليّات إنتاج وتحليل الحامض الأمينيّ ليزين.

في ختام الدّكتوراة، انضمّ سانغر إلى فريق أبحاث تشارلز تشبنول (Chibnall)، الّذي درس الإنسولين. تشبنول اقترح أن يحاول سانغر تحديد محتوى الحوامض الأمينيّة وترتيبها في هذا البروتين- فكانت خطوة مفاجئة لظنّ العلماء أنّ ترتيب الحوامض الأمينيّة عشوائيّ تمامًا، بالتّالي لا يمكن تحديده، وليس بحاجة لذلك أيضًا. كان النّهج السّائد أنّ البروتينات تنتَج بشكل عشوائي، غير موحّدة ولا يمكن تصنيعها.

خلال عمله، طور سانغر مادّة متفاعلة خاصّة الّتي تقوم بكسر جزيء البروتين في مواقع مختلفة فيه، ممّا مكّنه من تحديد ترتيب الأحماض الأمينيّة في الإنسولين بدقّة؛ واليوم تسمّى هذه المادّة على اسمه. نشرت النّتائج الّتي توصل إليها في عدّة مقالات، يصف كلّ منها جزءًا مختلفًا من بروتين الإنسولين وعلاقته بالأجزاء الأخرى. منحه هذا الإنجاز جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1958 عن "عمله في مجال مباني البروتينات، وخاصّة الإنسولين".

نتائج سانغر كانت ثورويّة حيث أثبت لأوّل مرّة أنّ لكلّ بروتين مبنى خاص الهامّ لأداء وظيفته. الاستنتاجات الّتي توصّل إليها فتحت بابًا أمام عدد لا يحصى من الأسئلة، مثلًا: كيف يؤثّر مبنى البروتين على وظيفته، كيف تُنتَج البروتينات وغيرها من الأسئلة.

سانغر في المختبر| المصدر: Science Photo Library
في الصّورة: مهدّت استنتاجات بعيدة المدى الطّريق للعديد من الأسئلة العلميّة والخارقة. سانغر في المختبر| المصدر: Science Photo Library
 
عودة للقواعد

في عام 1962، انتقل سانغر إلى مجلس الأبحاث الطّبيّة (MRC)- وهو معهد أبحاث جديد الّذي افتتح مختبرات جديدة في أوكسفورد في مجال البيولوجيا الجزيئيّة وجنّد العديد من العلماء البارزين، مثل فرانسيس كريك، الّذي شارك في تحليل مبنى ال- DNA. عُيِّن سانغر رئيسًا لقسم أبحاث البروتينات، لكن سرعان ما انتقل إلى الترّكيز على دراسة الحوامض النوويّة -ال RNA وال- DNA.

في البداية، عمل على تطوير طرق لتحديد تسلسل ال-RNA، إلّا أنّه كانت فِرَق أبحاث أخرى قد سبقته في ذلك. انتقل من هناك إلى دراسة مبنى جزيء ال- DNA. الطّريقة الأولى الّتي طورّها، الّتي تسمّى طريقة "الزّائد والنّاقص"، أتاحت له تحديد ترتيب النّوكليؤوتيدات في سلسلة ال-DNA باستخدام الإنزيم (بوليميراز) الّذي يكوّن السّلسلة والنّوكليؤوتيدات التي عُلِّمت بمادّة مشعّة، وبالتّالي حُدّد تسلسل قواعد ال- DNA لأوّل مرّة.

في عام 1977، استخدم فريق أبحاثه هذه الطّريقة لتحديد تسلسل جينوم الفيروس ΦX174- أول جينوم حُدّد تسلسله على الإطلاق. في 1 ديسمبر من نفس العام، نشر هو وزملاؤه المقال الرّائد حول تحديد تسلسل ال- DNA. فيما بعد طوّر سانغر الطّريقة لما يعرف الآن باسم طريقة سانغر، والّتي تمكّن من تحديد تسلسل مقاطع كبيرة من ال- DNA؛ من خلالها حدّد هو وزملاؤه تسلسل قواعد ال- DNA للميتوكوندريا في خلايا الإنسان. بفضل هذه الإنجازات؛ حصل سانغر على جائزة نوبل في الكيمياء للمرّة الثّانية "لمساهمته في تحديد تسلسل القواعد في ال- DNA ". استُخدمت هذه الطّريقة في مشروع الجينوم البشريّ، ولا تزال مستخدمة حتّى اليوم بصيغاتها المتقدّمة أكثر.

تقاعد سانغر في عام 1983. على مرّ السّنين تلقّى العديد من الأوسمة، لكنّه رفض قبول لقب الفروسيّة من الملكة إذ أنّه لم يريد إضافة لقب "سيّد" إلى اسمه. يقول أصدقاؤه أنّه كان دائمًا رجلًا متواضعًا ويفضّل أن يُذكَر لشغفه للعلم وللاكتشافات الجديدة.

0 تعليقات