على امتداد التاريخ البشري، لا نملك الكثير من الأمثلة لاكتشافات عبقرية كوّنت نظرية علمية أو فهماً أفضل للكون الذي نعيش فيه.
على امتداد التاريخ البشري، لا نملك الكثير من الأمثلة لاكتشافات عبقرية كوّنت نظرية علمية أو فهماً أفضل للكون الذي نعيش فيه. لقد حظِيِ عدد قليل جداً من العلماء بالشهرة فأصبحوا أيقونة علمية وثقافية في أعقاب اكتشاف عبقري كهذا، فتولّدت من حولهم أساطير أو قصصٌ قصيرة ساعدت عامة الناس على التضامن معهم وفهم الاكتشاف العلمي الذي أنجزوه. لقد تحوّلَ هؤلاء العلماء وسماً (أو مجازاً: علامة تجارية)، يعرِف أسماءهم كل شخص عاقل، مثل نيوتن وأينشتاين.
كل طفل، تقريباً، في أيامنا يعرف الأسطورة عن نيوتن. وفقاً لما يُحكى فإنه كان جالساً مرة في ظل شجرة تفاح يفَكّر في قوانين الطبيعة التي تتحكّم بحركة الأجسام المختلفة، عندها سقطت تفاحة على رأسه، الأمر الذي جعله يعيد النظر في سبب سقوط الأجسام، فخَلَدَ إلى ذهنه الوعي بوجود قوة جرى تجاهلها حتى ذلك الحين - قوة الجاذبية. تحوّل أينشتاين إلى شخصية مشهورة وهو لا يزال على قيد الحياة، فأصبح اسمه مرادفاً للعبقرية والتطور العلمي. لقد ساعد عدد من القصص الشعبية في تحويله إلى وسمٍ رسمي دولي يعجب به الجميع، مثل القصة عن كونه رسَبَ في الرياضيات عندما كان طالباً في الثانوية، وذلك قبل أن يتحوّلَ ويصبح العالِم الأكثر أهمية على نطاق عالمي.
ليس هناك من مُخالِفٍ أن نظريات نيوتن وأينشتاين غيّرت الطريقة التي تفهم بها الإنسانية الكون وتعيش فيه. لا شك بأنّ مكانتهم في قمة العلماء على مر العصور والأزمنة لها حقاً ما يبررها. مع ذلك، من الصعب ألّا نتساءلَ فيما إذا كانت عَظَمة وتفرّد نظرية علمية جديدة قد تم اكتشافها هما المعيار الوحيد للمجد العالمي الذي حظي به بعض العلماء. هل من المحتمل أن اكتشافات عبقرية ليست أقل أهمية، على امتداد تاريخ العلوم، لم تحظَ بالتقدير والاعتراف التي تستحقها، فضاعت في هاوية النسيان؟ للتعمق في هذه القضية، علينا فهم ماهية النظرية العلمية وما الذي يحوّلها إلى نظرية كبيرة.
ما هي النظرية العلمية؟
لقد جرى بحث مُطوّل، ضمن فلسفة العلوم، حول تعريف النظرية العلمية. جرتْ في هذا البحث محاولات كثيرة لتحديد ما الذي يحوّل نظرية علمية لتصبح مقبولة وموثوقاً بها، وما الذي يلزمها لتكون كبيرة ومتفردة في مجالها. وكما في جميع المجالات، توجد في فلسفة العلوم وجهات نظرٍ عِدّة ومختلفة وقد تكون متضاربة أيضاً. لقد اخترت في هذه المقالة عرض قسم من تعريفات النظرية العلمية كما عرفها كارل بوبر، الذي كان أحد فلاسفة العلوم الكبار.
مصدر الكلمة "نظرية" (Theory) هو اليونانية ومعناها البحث. على النظرية العلمية الجيدة أن تنتج عن مشاهدات وتأملات في الطبيعة. وعلى هذه المشاهدات أن تجد بدورها تفسيرا مُكَوّنا من منظومة تفسيرات منطقية كاملة.
يتحدّد مدى قوة النظرية العلمية بحسب اختبارين رئيسيين. الاختبار الأول هو كمية المشاهدات التي بمقدور منظومة التفسيرات هذه أن تفسّرها. إذا أردنا التطرق بشكل متطرّف إلى هذا المبدأ، نقول إن النظرية التي بإمكانها تفسير جميع الظواهر التي تحصل في العالم هي النظرية الأقوى والأكثر اعتباراً على الإطلاق. الاختبار الثاني هو اختبار التنبّؤ. وهو اختبار مختلف تماما - ليس الحديث هنا عن قدرة تفسير مشاهدة تمت رؤيتها، بل القدرة على تنبّؤ حصول حدثٍ ما لم تتم رؤيته من قبل، وذلك بالاعتماد على مبادئ النظرية.
مثلاً، لقد ظهرت النظرية النسبية المنسوبة لأينشتاين بكامل عظمتها ومجدها عندما تنبّأ أينشتاين أن الضوء يجب أن ينجذب من قبل قوة جاذبية أجسام كبيرة كالشمس. وقد انطلقت مجموعة من الباحثين برئاسة الفيزيائي أدينچتون قاصدين تصديق هذا التنبّؤ، وبعد قياسات غاية في الدقة والتدقيق قرروا أن شعاع الضوء يميل فعلاً عن مساره عندما يمرّ قريباً من الشمس. وقد أصبح أينشتاين، في أعقاب هذا الاكتشاف، بين ليلة وضحاها عالماً مشهورا جداً.
حالة مانديلييف
يبدو أن مدى قوة النظرية ليس هو الذي يحدّد دائماً مدى الاعتراف الجماهيري بالعالِم الذي طوّرها.لقد حصلَ، أكثر من مرة، أن نظرية مُدهِشة لم تمنح العالِم الذي طوّرها الاعتراف الذي يستحقه، لأن المصادقة عليها وفهم عظمتها تطلّبت سنين طويلة. وأحيانا كانت تنقص العالِم العلاقات العامة المناسبة.
أحد الأمثلة لاكتشاف عبقري لم يحظَ بالاعتراف الذي يستحقه هو العالِم الروسي ديميتري إيڤانوڤيتش مانديلييف، مُطَوّر الجدول الدوري. ولكن الجدول الدوري يعتبر، في أوساط المُطّلعين على مجريات الأمور والعلوم، وبحق إحدى تُحف العلم الحديث.
قد يتراءى للبعض، لأول وهلة، أنه ليس هناك شيء عبقري في تنظيم العناصر الطبيعية في جدول، ولكن مانديليڤ رتَّبَ العناصر على أساس أن كتلة العنصر وميزات كل عنصر هي التي تحدد المكان الذي يناسبه في الجدول. لقد كان مانديليڤ عالِماً ذا بصيرة ورؤية بعيدة، بحيث أنه عندما نقصَ لديه عنصرٌ من شأنه أن يُكمِلَ التسلسل المنطقي للمبادئ التي بُنِيَ الجدول على أساسها، أبقى مربعاً فارغاً في الجدول، مُدركاً ومتنبئاً بأنه سيأتي يومٌ يتم فيه اكتشاف العنصر الذي تلائم صفاته وكتلته الفعلية الصفات المتوقعة في المربع الفارغ.
لقد تبلور هذا الترتيب سنة 1869، وحينها كان العالم بأسره قد عرف 63 عنصراً، ولم تكن هناك أية معرفة عن مبنى الذرة وعن الأشياء التي تُكوّن الخواص التي يتفرّد بها كل عنصر. إن الإثبات الأقوى على عبقرية الترتيب الذي اقترحه مانديليڤ هو أن الجدول المُحَتْلَن، والذي يحتوي على 118 عنصراً طبيعياً واصطناعياً، لا يختلف جوهرياً عن أول جدول بناه مانديلييف مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. ذلك يعني أن الجدول الأصلي تنبّأَ وجود 55 عنصراً، وبالإضافة إلى ذلك، فقد تنبّأ الجدول الأصلي بالأوزان الذرية والصفات التي تمَيّز عناصر لم تكن معروفة ("موجودة") آنذاك!
العبقرية من وراء الجدول الدوري │ تم إنتاج الفيلم من قبل TED-Ed
حظي مانديلييف في حياته على اعتراف جزئي فقط بإنجازاته العلمية غير العادية. فلم يتم اختياره للأكاديمية الروسية للعلوم ولم ينل جائزة نوبل حتى وفاته في العام 1907. هناك من يدّعي أن مزاجه المتصلّب عديم التنازل وسلوكه غير الرسمي قد منعا عنه الاعتراف الذي يليق به. ولكن من المحتمل أن يكون المحيط العلمي هو الذي قد فشل في فهم عمق ونبوءة وإبداع عمل مانديلييف المُدهِش.
عُرفَت على مرّ تاريخ العلوم أمثلة ليست بالقليلة لاكتشافات لم تلاقي صدًى جماهيرياً مناسباً، لأسباب مختلفة، منها أن العالِم المسئول عن الاكتشاف المهم لم يكن مواطناً في الدولة المناسِبة، أو أنه لم يكن مشهوراً بما فيه الكفاية، أو أنه لم يعرف كيف يُصعّد الاكتشاف ويعرّفه للعالم أجمع. إذاً تذكروا - لا يكفي أن نكتشف اكتشافاً مثيرا، علينا أن نعرف كيف نُسَوّقه أيضاً.
الترجمة للعربيّة: خالد مصالحة